سورة الفاتحة آية رقم 2
سورة الفاتحة آية رقم 2
سورة الفاتحة آية رقم 2
{الحمد لله رب العالمين}
إعراب الآية :
"رب": بدل مجرور بالكسرة، "العالمين": مضاف إليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ وقد أُلْحِقَ به لأنه ليس عَلَمًا ولا صفة، و "عالَم" المفرد يشمل المذكر والمؤنث، والعاقل وغيره، و"عالَمون" مع الجمعية لا يُطلق إلا على المذكر العاقل، فاختلف المفرد عن الجمع.
المواضيع المشتركة في الآية الكريمة :
صفات الله المضافة: رب العالمين
العالَم: خضوعه لله
الألفاظ المشتركة في الآية الكريمة :
تفسير الجلالين :
2 - (الحمد لله) جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها على أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق أو مستحق لأن يحمدوه ، والله علم على المعبود بحق (رب العالمين) أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم ، يقال عالم الإنس وعالم الجن إلى غير ذلك ، وغلب في جمعه بالياء والنون أولي العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده
تفسير ابن كثير :
القراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله هو مبتدأ وخبر وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا" الحمد لله " بالنصب وهو على إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة " الحمد لله " بضم الدال واللام إتباعا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ وعن الحسن وزيد بن علي " الحمد لله " بكسر الدال إتباعا للأول الثاني قال أبو جعفر بن جرير معنى" الحمد لله " الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد من دونه ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد في تصحيح الآلات لطاعته وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا . وقال ابن جرير رحمه الله : " الحمد لله " ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال قولوا " الحمد لله " قال وقد قيل إن قول القائل " الحمد لله " ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وقوله الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه . ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية وقال ابن عباس " الحمد لله " كلمة كل شاكر وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل " الحمد لله " شكرا . وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر : أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا ولكنهم اختلفوا أيهما أعم الحمد أو الشكر على قولين والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية تقول حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إلي. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين والله أعلم. وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري : الحمد نقيض الذم تقول حمدت الرجل أحمده حمدا ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد والحمد أعم من الشكر وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح . وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضا كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل الإحسان وبعده وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم. ذكر أقوال السلف في الحمد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال عمر رضي الله عنه قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله فما " الحمد لله " ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه ورواه غير أبى معمر عن حفص فقال قال عمر لعلي - وأصحابه عنده - لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد عرفناها فما " الحمد لله " ؟ قال علي : كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال وقال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران قال ابن عباس " الحمد لله " كلمة الشكر وإذا قال العبد" الحمد لله " قال شكرني عبدي . رواه ابن أبي حاتم وروى أيضا هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : " الحمد لله " هو الشكر لله هو الاستخذاء له والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك وقال كعب الأحبار " الحمد لله " ثناء الله وقال الضحاك " الحمد لله " رداء الرحمن وقد ورد الحديث بنحو ذلك . قال ابن جرير حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم بن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قلت " الحمد لله رب العالمين " فقد شكرت الله فزادك " وقد روى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى فقال " أما إن ربك يحب الحمد " ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن بن الأسود بن سريع به . وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " وقال الترمذي حسن غريب . وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ " وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكان الحمد لله أفضل من ذلك " قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى قال الله تعالى " المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا" وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم " أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله وهو أعلم بما قال عبده : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا قول العبد " الحمد لله رب العالمين " أفضل من قوله لا إله إلا الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد وقال آخرون لا إله إلا الله أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له " وقد تقدم عن جابر مرفوعا " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " وحسنه الترمذي. والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث " اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله " الحديث . والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول رب الدار كذا وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل وقد قيل إنه الاسم الأعظم . والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل والعالم جمع لا واحد له من لفظه والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات وفي البر والبحر وكل قرن منها وجيل يسمى عالما أيضا قال بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس " الحمد لله رب العالمين " الحمد لله الذي له الخلق كله السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم . وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس : رب الجن والإنس وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج وروي عن علي نحوه قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه واستدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى " ليكون للعالمين نذيرا " وهم الجن والإنس قال الفراء وأبو عبيد : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم عالم . وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما له روح ترفرف . وقال قتادة رب العالمين كل صنف عالم وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد ويلقب بالحمار أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل . وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله تعالى " رب العالمين " قال الإنس عالم والجن عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم - هو يشك - الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم . وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات يعني ابن الوليد عن معتب بن سمي عن سبيع يعني الحميري في قوله تعالى " رب العالمين " قال العالمين ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر وحكي مثله عن سعيد بن المسيب وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رئي من الجراد شيء أم لا قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه " محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي ضعيف وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال وهب بن منبه لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وقال مقاتل العوالم ثمانون ألفا وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل نقله كله البغوي وحكى القرطبي عن أبى سعيد الخدري أنه قال إن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها . وقال الزجاج العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة قال القرطبي وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين كقوله " قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " والعالم مشتق من العلامة " قلت " لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز : فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
تفسير القرطبي :
سورة الفاتحة : وفيها أربعة أبواب : [ الباب الأول في فضائلها وأسمائها ] وفيه سبع مسائل الأولى : روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ) . أخرج مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب : أن أبا سعيد مولى [ عبد الله بن ] عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ; فذكر الحديث . قال ابن عبد البر : أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة , روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل ; وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا رواه عنه حفص بن عاصم , وعبيد بن حنين. قلت : كذا قال في التمهيد : لا يوقف له على اسم . وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه . والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه , فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ; فقال : ( ألم يقل الله " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم " ) [ الأنفال : 24 ] - ثم قال - ( إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ) ثم أخذ بيدي , فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . قال ابن عبد البر وغيره : أبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار , وسادات الأنصار , تفرد به البخاري , واسمه رافع , ويقال : الحارث بن نفيع بن المعلى , ويقال : أوس بن المعلى , ويقال : أبو سعيد بن أوس بن المعلى ; توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة , وهو أول من صلى إلى القبلة حين حولت , وسيأتي . وقد أسند حديث أبي يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي ; فذكر الحديث بمعناه . وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له : حدثني أبي حدثني أبو عبيد الله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال : إن إبليس - لعنه الله - رن أربع رنات : حين لعن , وحين أهبط من الجنة , وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم , وحين أنزلت فاتحة الكتاب , وأنزلت بالمدينة. الثانية : اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض , وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض , فقال قوم : لا فضل لبعض على بعض , لأن الكل كلام الله , وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها . ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري , والقاضي أبو بكر بن الطيب , وأبو حاتم محمد بن حبان البستي , وجماعة من الفقهاء . وروي معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ , وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها . وقال عن مالك في قول الله تعالى : " نأت بخير منها أو مثلها " [ البقرة : 106 ] قال : محكمة مكان منسوخة . وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك . واحتج هؤلاء بأن قالوا : إن الأفضل يشعر بنقص المفضول , والذاتية في الكل واحدة , وهي كلام الله , وكلام الله تعالى لا نقص فيه . قال البستي : ومعنى هذه اللفظة ( ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ) : أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن , إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم , وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه , وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله : ( أعظم سورة ) أراد به في الأجر , لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقال قوم بالتفضيل , وأن ما تضمنه قوله تعالى " إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي , وآخر سورة الحشر , وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] وما كان مثلها . والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها , لا من حيث الصفة , وهذا هو الحق . وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين , وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار , لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم ) قال فقلت : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة : 255 ] . قال : فضرب في صدري وقال : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) أخرجه البخاري ومسلم . قال ابن الحصار : عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص . وقال ابن العربي : قوله : ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ) وسكت عن سائر الكتب , كالصحف المنزلة والزبور وغيرها , لأن هذه المذكورة أفضلها , وإذا كان الشيء أفضل الأفضل , صار أفضل الكل . كقولك : زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس . وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها , حتى قيل : إن جميع القرآن فيها . وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن. ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده , ولا تصح القربة إلا بها , ولا يلحق عمل بثوابها , وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم , كما صارت " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن , إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ , و " قل هو الله أحد " فيها التوحيد كله , وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه السلام لأبي . ( أي آية في القرآن أعظم ) قال : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة : 255 ] . وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله : ( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) أفضل الذكر ; لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد , والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير , ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى . الثالثة : روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب , وآية الكرسي , وشهد الله أنه لا إله إلا هو , وقل اللهم مالك الملك , هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب ) . أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له . الرابعة : في أسمائها , وهي اثنا عشر اسما : ( الأول ) : الصلاة , قال الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث . وقد تقدم . ( الثاني ) : الحمد , لأن فيها ذكر الحمد ; كما يقال : سورة الأعراف , والأنفال , والتوبة , ونحوها . ( الثالث ) : فاتحة الكتاب , من غير خلاف بين العلماء ; وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا , وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا , وتفتتح بها الصلوات . ( الرابع ) : أم الكتاب , وفي هذا الاسم خلاف , جوزه الجمهور , وكرهه أنس والحسن وابن سيرين . قال الحسن : أم الكتاب الحلال والحرام , قال الله تعالى : " آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " [ آل عمران : 7 ] . وقال أنس وابن سيرين : أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ . قال الله تعالى : " وإنه في أم الكتاب " . [ الزخرف : 4 ] . ( الخامس ) : أم القرآن , واختلف فيه أيضا , فجوزه الجمهور , وكرره أنس وابن سيرين ; والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين . روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني ) قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري قال : وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف , ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وقال يحيى بن يعمر : أم القرى : مكة , وأم خراسان : مرو , وأم القرآن : سورة الحمد . وقيل : سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه , وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت , ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل , والأرض أما , في قول أمية بن أبي الصلت : فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد ويقال لراية الحرب : أم ; لتقدمها واتباع الجيش لها. وأصل أم أمهة , ولذلك تجمع على أمهات , قال الله تعالى : " وأمهاتكم " . ويقال أمات بغير هاء . قال : فرجت الظلام بأماتكا وقيل : إن أمهات في الناس , وأمات في البهائم ; حكاه ابن فارس في المجمل. ( السادس ) : المثاني , سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل : سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها . ( السابع ) : القرآن العظيم , سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن , وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله , وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها , والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى , وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ; وكفاية أحوال الناكثين , وعلى بيانه عاقبة الجاحدين. ( الثامن ) : الشفاء , روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ) . ( التاسع ) : الرقية , ثبت ذلك من حديث أبي سعيد الخدري وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل , الذي رقى سيد الحي : ( ما أدراك أنها رقية ) فقال : يا رسول الله شيء ألقي في روعي ; الحديث . خرجه الأئمة , وسيأتي بتمامه . ( العاشر ) : الأساس , شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة ; فقال : عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب , سمعت ابن عباس يقول : لكل شيء أساس , وأساس الدنيا مكة , لأنها منها دحيت ; وأساس السموات عريبا , وهي السماء السابعة ; وأساس الأرض عجيبا , وهي الأرض السابعة السفلى ; وأساس الجنان جنة عدن , وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة ; وأساس النار جهنم , وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات , وأساس الخلق آدم , وأساس الأنبياء نوح ; وأساس بني إسرائيل يعقوب ; وأساس الكتب القرآن ; وأساس القرآن الفاتحة ; وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ; فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى . ( الحادي عشر ) : الوافية , قاله سفيان بن عيينة , لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال , ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة , ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ; ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز . ( الثاني عشر ) : الكافية , قال يحيى بن أبي كثير : لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها . يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا ) . الخامسة : قال المهلب : إن موضع الرقية منها إنما هو " إياك نعبد وإياك نستعين " [ الفاتحة : الآية 5 ] . وقيل : السورة كلها رقية , لقوله عليه السلام للرجل لما أخبره : ( وما أدراك أنها رقية ) ولم يقل : أن فيها رقية ; فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية , لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه , ومتضمنة لجميع علومه , كما تقدم والله أعلم. السادسة : ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك , قال الله عز وجل : " كتابا متشابها مثاني " [ الزمر : 23 ] فأطلق على كتابه : مثاني ; لأن الأخبار تثنى فيه . وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني ; لأن الفرائض والقصص تثنى فيها . قال ابن عباس : أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني ; قال : السبع الطول . ذكره النسائي , وهي من " البقرة " إلى " الأعراف " ست , واختلفوا في السابعة , فقيل : يونس , وقيل : الأنفال والتوبة ; وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير . وقال أعشى همدان : فلجوا المسجد وادعوا ربكم وادرسوا هذي المثاني والطول وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر " إن شاء الله تعالى . السابعة : المثاني جمع مثنى , وهي التي جاءت بعد الأولى , والطول جمع أطول . وقد سميت الأنفال من المثاني لأنها تتلو الطول في القدر . وقيل : هي التي تزيد آياتها على المفصل وتنقص عن المئين. والمئون : هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية . [ الباب الثاني - في نزولها وأحكامها ] وفيه عشرون مسألة الأولى : أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات ; إلا ما روي عن حسين الجعفي : أنها ست ; وهذا شاذ. وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل " إياك نعبد " آية , وهي على عدة ثماني آيات ; وهذا شاذ . وقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " [ الحجر : 87 ] , وقوله : ( قسمت الصلاة ) الحديث , يرد هذين القولين . وأجمعت الأمة أيضا على أنها من القرآن . فإن قيل : لو كانت قرآنا لأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه , فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن , كالمعوذتين عنده. فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري قال : حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال : أظنه عن إبراهيم قال : قيل لعبد الله بن مسعود : لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك ؟ قال لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة . قال أبو بكر : يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها , فقال : اختصرت بإسقاطها , ووثقت بحفظ المسلمين لها , ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سوره , إذ كانت تتقدمها في الصلاة. الثانية : اختلفوا أهي مكية أم مدنية ؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رفيع - وغيرهم : هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم : هي مدنية . ويقال : نزل نصفها بمكة , ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره . والأول أصح لقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " [ الحجر : 87 ] والحجر مكية بإجماع . ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة . وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين " ; يدل على هذا قوله عليه السلام : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . وهذا خبر عن الحكم , لا عن الابتداء , والله أعلم. وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن ; فقيل : المدثر , وقيل : اقرأ , وقيل : الفاتحة. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : ( إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا ) قالت : معاذ الله ! ما كان الله ليفعل بك , فوالله إنك لتؤدي الأمانة , وتصل الرحم , وتصدق الحديث . فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له , قالت : يا عتيق , اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده , فقال : انطلق بنا إلى ورقة , فقال : ( ومن أخبرك ) . قال : خديجة , فانطلقا إليه فقصا عليه ; فقال : ( إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض ) فقال : لا تفعل , إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني . فلما خلا ناداه : يا محمد , قل " بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين - حتى بلغ ولا الضالين " , قل : لا إله إلا الله . فأتى ورقة فذكر ذلك له ; فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر , فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم , وأنك على مثل ناموس موسى , وأنك نبي مرسل , وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا , وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك . فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني ) يعني ورقة . قال البيهقي رضي الله عنه : هذا منقطع . يعني هذا الحديث , فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعدما نزل عليه " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] و " يا أيها المدثر " [ المدثر : 1 ] . الثالثة : قال ابن عطية : ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد ; لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم , سمع نقيضا من فوقه , فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم , فنزل منه ملك , فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ; فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب , وخواتيم سورة البقرة ; لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته . قال ابن عطية : وليس كما ظن , فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلما به وبما ينزل معه ; وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها ; والله أعلم . قلت : الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك . وقد بينا أن نزولها كان بمكة , نزل بها جبريل عليه السلام , لقوله تعالى : " نزل به الروح الأمين " [ الشعراء : 193 ] وهذا يقتضي جميع القرآن , فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة , ونزل الملك بثوابها بالمدينة . والله أعلم. وقد قيل : إنها مكية مدنية , نزل بها جبريل مرتين ; حكاه الثعلبي . وما ذكرناه أولى . فإنه جمع بين القرآن والسنة , ولله الحمد والمنة . الرابعة : قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح , وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت , ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا , لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما , وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت , قال بها جماعة من العلماء ; فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك , تبارك اسمك , وتعالى جدك , ولا إله غيرك . وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي . وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال : ( وجهت وجهي ) الحديث , ذكره مسلم , وسيأتي بتمامه في آخر سورة الأنعام , وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله. قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ يقول : ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) واستعمل ذلك أبو هريرة . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة. وكان الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب . الخامسة : واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ; فقال مالك وأصحابه : هي متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي : لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه . واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية ; فقال مرة : يعيد الصلاة , وقال مرة أخرى : يسجد سجدتي السهو ; وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك . قال ابن خويز منداد وقد قيل : إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال ابن عبد البر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها , كمن أسقط سجدة سهوا . وهو اختيار ابن القاسم . وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني : إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة ; لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن ; وهي تامة لقوله عليه السلام : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) وهذا قد قرأ بها . قلت : ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة , وهو الصحيح على ما يأتي . ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات , وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم . وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه ; على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أقله ثلاث , آيات أو آية طويله كآية الدين. وعن محمد بن الحسن أيضا قال : أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة ; نحو : " الحمد لله " ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما . وقال الطبري : يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة , فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها . قال ابن عبد البر : وهذا لا معنى له ; لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ; ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها , وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها , كسائر المفروضات المتعينات في العبادات. السادسة : وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة ; لإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ , وهي المسألة : السابعة : ولا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر ; فإن فعل فقد أساء ; ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه. وأما إذا جهر الإمام وهي المسألة : الثامنة : فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك ; لقول الله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] , وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما لي أنازع القرآن ) , وقوله في الإمام : ( إذا قرأ فأنصتوا ) , وقول : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) . وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل : لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة , إماما كان أو مأموما , جهر إمامه أو أسر . وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم : يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر ; كمشهور مذهب مالك. وقال بمصر : فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان : أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه ألا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام. حكاه ابن المنذر . وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب والكوفيون : لا يقرأ المأموم شيئا , جهر إمامه أو أسر ; لقوله عليه السلام : ( فقراءة الإمام له قراءة ) وهذا عام , ولقول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام . التاسعة : الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر , وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ) , وقوله : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) ثلاثا . وقال أبو هريرة : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه : ( لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى , فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها ; وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي , وروي مثله عن الأوزاعي ; وبه قال مكحول . وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي ; فهؤلاء الصحابة بهم القدوة , وفيهم الأسوة , كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة. وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال : حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن فضيل , ح , وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة : ( وافعل ذلك في صلاتك كلها ) وسيأتي . ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال : أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح ; فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس , وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم , وأبو نعيم يجهر بالقراءة ; فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن ; فلما انصرف قلت لعبادة : سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر ؟ قال : أجل ! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه ; فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : ( هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة ) ؟ فقال بعضنا : إنا نصنع ذلك ; قال : ( فلا . وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن ) . وهذا نص صريح في المأموم . وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه ; وقال : حديث حسن . والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ; وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق , يرون القراءة خلف الإمام . وأخرجه أيضا الدارقطني وقال : هذا إسناد حسن , ورجاله كلهم ثقات ; وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء , وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس . وقال أبو محمد عبد الحق : ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ; ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا . وقال فيه أبو عمر : مجهول . وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال : سألت عمر عن القراءة خلف الإمام , فأمرني أن أقرأ , قلت : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ; قلت : وإن جهرت ؟ قال : وإن جهرت. قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح . وروي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا ) . قال أبو حاتم : هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام ; وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له : إني أحيانا أكون وراء الإمام , ثم استدل بقوله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرءوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين ) الحديث . العاشرة : أما ما استدل به الأولون بقوله عليه السلام : ( وإذا قرأ فأنصتوا ) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ; وقال : وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة ( وإذا قرأ فأنصتوا ) قال الدارقطني : هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة ; وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها ; منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة . قال الدارقطني : فإجماعهم يدل على وهمه . وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ; ولكن ليس هو بالقوي , تركه القطعان . وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال : هذه الزيادة ( إذا قرأ فأنصتوا ) ليست بمحفوظة . وذكر أبو محمد عبد الحق : أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال : هو عندي صحيح . قلت : ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها . وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر . وأما قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] فإنه نزل بمكة , وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها ; فإن المقصود كان المشركين , على ما قال سعيد بن المسيب . وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : عبد الله بن عامر ضعيف . وأما قوله عليه السلام : ( ما لي أنازع القرآن ) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي , واسمه فيما قال مالك : عمرو , وغيره يقول عامر , وقيل يزيد , وقيل عمارة , وقيل عباد , يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة , لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد , وهو ثقة , وروى عنه محمد بن عمرو وغيره. والمعنى في حديثه : لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج , اقرءوا في أنفسكم . يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين . فلو فهم المنع جملة من قوله : ( ما لي أنازع القرآن ) لما أفتى بخلافه , وقول الزهري في حديث ابن أكيمة : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة , حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم , يريد بالحمد على ما بينا ; وبالله توفيقنا . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك , وأبو حنيفة وهو ضعيف ; كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر . أخرجه الدارقطني وقال : رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم , عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وأما قول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام ; فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله . قال ابن عبد البر : ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ . وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن ; وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب . وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة ; وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره . الحادية عشرة : قال ابن العربي : لما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال , أو على الإجزاء ؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر , ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم , كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت . ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة ; فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( افعل ذلك في صلاتك كلها ) لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود . والله أعلم . الثانية عشرة : ما ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين , وأنها وغيرها من آي القرآن سواء . وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه ; وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله : " وأقيموا الصلاة " . وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر . فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للأعرابي : ( اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) ما زاد على الفاتحة , وهو تفسير قوله تعالى : " فاقرءوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن - زاد في رواية - فصاعدا " . وقوله عليه السلام : ( هي خداج - ثلاثا - غير تمام ) أي غير مجزئة بالأدلة المذكورة . والخداج : النقص والفساد . قال الأخفش : خدجت الناقة ; إذا ألقت ولدها لغير تمام , وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق . والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة , لأنها صلاة لم تتم ; ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر , على حسب حكمها . ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل , ولا سبيل إليه من وجه يلزم , والله أعلم. الثالثة عشرة : روي عن مالك أن القراءة لا تجب في شيء في الصلاة ; وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها , ثم رجع عن هذا بمصر فقال : لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها , ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها ; فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها . وهذا هو الصحيح في المسألة . وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها , فذكر ذلك له فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسن , قال : لا بأس إذا , فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد , لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر , ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر , وكلاهما منقطع لا حجة فيه ; وقد ذكره مالك في الموطأ , وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه , لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة , وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة ; وهو الصحيح عنه . روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة . قال ابن عبد البر : وهذا حديث متصل شهده همام من عمر ; روي ذلك من وجوه . وروى أشهب عن مالك قال : سئل مالك عن الذي نسي القراءة , أيعجبك ما قال عمر ؟ فقال : أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال : يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به ! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا . الرابعة عشرة : أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة , على ما تقدم من أصولهم في ذلك . وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب , إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مالك : وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة , وفي الأخريين بفاتحة الكتاب . وقال الأوزاعي : يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه , وقال : وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد . وقال الثوري : يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة , ويسبح في الأخريين إن شاء , وإن شاء قرأ , وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته , وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين . قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين , وبه قال النخعي . قال سفيان : فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة . قال : وكذلك إن نسي أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر. وقال أبو ثور : لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة , كقول الشافعي الم
{الحمد لله رب العالمين}
إعراب الآية :
"رب": بدل مجرور بالكسرة، "العالمين": مضاف إليه مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ وقد أُلْحِقَ به لأنه ليس عَلَمًا ولا صفة، و "عالَم" المفرد يشمل المذكر والمؤنث، والعاقل وغيره، و"عالَمون" مع الجمعية لا يُطلق إلا على المذكر العاقل، فاختلف المفرد عن الجمع.
المواضيع المشتركة في الآية الكريمة :
صفات الله المضافة: رب العالمين
العالَم: خضوعه لله
الألفاظ المشتركة في الآية الكريمة :
تفسير الجلالين :
2 - (الحمد لله) جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها على أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق أو مستحق لأن يحمدوه ، والله علم على المعبود بحق (رب العالمين) أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم ، يقال عالم الإنس وعالم الجن إلى غير ذلك ، وغلب في جمعه بالياء والنون أولي العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده
تفسير ابن كثير :
القراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله هو مبتدأ وخبر وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا" الحمد لله " بالنصب وهو على إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة " الحمد لله " بضم الدال واللام إتباعا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ وعن الحسن وزيد بن علي " الحمد لله " بكسر الدال إتباعا للأول الثاني قال أبو جعفر بن جرير معنى" الحمد لله " الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد من دونه ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد في تصحيح الآلات لطاعته وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا . وقال ابن جرير رحمه الله : " الحمد لله " ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال قولوا " الحمد لله " قال وقد قيل إن قول القائل " الحمد لله " ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وقوله الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه . ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية وقال ابن عباس " الحمد لله " كلمة كل شاكر وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل " الحمد لله " شكرا . وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر : أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا ولكنهم اختلفوا أيهما أعم الحمد أو الشكر على قولين والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية تقول حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إلي. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين والله أعلم. وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري : الحمد نقيض الذم تقول حمدت الرجل أحمده حمدا ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد والحمد أعم من الشكر وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح . وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضا كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل الإحسان وبعده وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم. ذكر أقوال السلف في الحمد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال عمر رضي الله عنه قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله فما " الحمد لله " ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه ورواه غير أبى معمر عن حفص فقال قال عمر لعلي - وأصحابه عنده - لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد عرفناها فما " الحمد لله " ؟ قال علي : كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال وقال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران قال ابن عباس " الحمد لله " كلمة الشكر وإذا قال العبد" الحمد لله " قال شكرني عبدي . رواه ابن أبي حاتم وروى أيضا هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : " الحمد لله " هو الشكر لله هو الاستخذاء له والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك وقال كعب الأحبار " الحمد لله " ثناء الله وقال الضحاك " الحمد لله " رداء الرحمن وقد ورد الحديث بنحو ذلك . قال ابن جرير حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم بن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قلت " الحمد لله رب العالمين " فقد شكرت الله فزادك " وقد روى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى فقال " أما إن ربك يحب الحمد " ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن بن الأسود بن سريع به . وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " وقال الترمذي حسن غريب . وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ " وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكان الحمد لله أفضل من ذلك " قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى قال الله تعالى " المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا" وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم " أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله وهو أعلم بما قال عبده : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا قول العبد " الحمد لله رب العالمين " أفضل من قوله لا إله إلا الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد وقال آخرون لا إله إلا الله أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له " وقد تقدم عن جابر مرفوعا " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " وحسنه الترمذي. والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث " اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله " الحديث . والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول رب الدار كذا وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل وقد قيل إنه الاسم الأعظم . والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل والعالم جمع لا واحد له من لفظه والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات وفي البر والبحر وكل قرن منها وجيل يسمى عالما أيضا قال بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس " الحمد لله رب العالمين " الحمد لله الذي له الخلق كله السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم . وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس : رب الجن والإنس وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج وروي عن علي نحوه قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه واستدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى " ليكون للعالمين نذيرا " وهم الجن والإنس قال الفراء وأبو عبيد : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم عالم . وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما له روح ترفرف . وقال قتادة رب العالمين كل صنف عالم وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد ويلقب بالحمار أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل . وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله تعالى " رب العالمين " قال الإنس عالم والجن عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم - هو يشك - الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم . وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات يعني ابن الوليد عن معتب بن سمي عن سبيع يعني الحميري في قوله تعالى " رب العالمين " قال العالمين ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر وحكي مثله عن سعيد بن المسيب وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رئي من الجراد شيء أم لا قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه " محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي ضعيف وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال وهب بن منبه لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وقال مقاتل العوالم ثمانون ألفا وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل نقله كله البغوي وحكى القرطبي عن أبى سعيد الخدري أنه قال إن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها . وقال الزجاج العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة قال القرطبي وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين كقوله " قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " والعالم مشتق من العلامة " قلت " لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز : فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
تفسير القرطبي :
سورة الفاتحة : وفيها أربعة أبواب : [ الباب الأول في فضائلها وأسمائها ] وفيه سبع مسائل الأولى : روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ) . أخرج مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب : أن أبا سعيد مولى [ عبد الله بن ] عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ; فذكر الحديث . قال ابن عبد البر : أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة , روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل ; وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا رواه عنه حفص بن عاصم , وعبيد بن حنين. قلت : كذا قال في التمهيد : لا يوقف له على اسم . وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه . والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه , فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ; فقال : ( ألم يقل الله " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم " ) [ الأنفال : 24 ] - ثم قال - ( إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ) ثم أخذ بيدي , فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . قال ابن عبد البر وغيره : أبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار , وسادات الأنصار , تفرد به البخاري , واسمه رافع , ويقال : الحارث بن نفيع بن المعلى , ويقال : أوس بن المعلى , ويقال : أبو سعيد بن أوس بن المعلى ; توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة , وهو أول من صلى إلى القبلة حين حولت , وسيأتي . وقد أسند حديث أبي يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي ; فذكر الحديث بمعناه . وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له : حدثني أبي حدثني أبو عبيد الله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال : إن إبليس - لعنه الله - رن أربع رنات : حين لعن , وحين أهبط من الجنة , وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم , وحين أنزلت فاتحة الكتاب , وأنزلت بالمدينة. الثانية : اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض , وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض , فقال قوم : لا فضل لبعض على بعض , لأن الكل كلام الله , وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها . ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري , والقاضي أبو بكر بن الطيب , وأبو حاتم محمد بن حبان البستي , وجماعة من الفقهاء . وروي معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ , وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها . وقال عن مالك في قول الله تعالى : " نأت بخير منها أو مثلها " [ البقرة : 106 ] قال : محكمة مكان منسوخة . وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك . واحتج هؤلاء بأن قالوا : إن الأفضل يشعر بنقص المفضول , والذاتية في الكل واحدة , وهي كلام الله , وكلام الله تعالى لا نقص فيه . قال البستي : ومعنى هذه اللفظة ( ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ) : أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن , إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم , وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه , وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله : ( أعظم سورة ) أراد به في الأجر , لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقال قوم بالتفضيل , وأن ما تضمنه قوله تعالى " إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي , وآخر سورة الحشر , وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] وما كان مثلها . والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها , لا من حيث الصفة , وهذا هو الحق . وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين , وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار , لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم ) قال فقلت : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة : 255 ] . قال : فضرب في صدري وقال : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) أخرجه البخاري ومسلم . قال ابن الحصار : عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص . وقال ابن العربي : قوله : ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ) وسكت عن سائر الكتب , كالصحف المنزلة والزبور وغيرها , لأن هذه المذكورة أفضلها , وإذا كان الشيء أفضل الأفضل , صار أفضل الكل . كقولك : زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس . وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها , حتى قيل : إن جميع القرآن فيها . وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن. ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده , ولا تصح القربة إلا بها , ولا يلحق عمل بثوابها , وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم , كما صارت " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن , إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ , و " قل هو الله أحد " فيها التوحيد كله , وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه السلام لأبي . ( أي آية في القرآن أعظم ) قال : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة : 255 ] . وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله : ( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) أفضل الذكر ; لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد , والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير , ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى . الثالثة : روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب , وآية الكرسي , وشهد الله أنه لا إله إلا هو , وقل اللهم مالك الملك , هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب ) . أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له . الرابعة : في أسمائها , وهي اثنا عشر اسما : ( الأول ) : الصلاة , قال الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث . وقد تقدم . ( الثاني ) : الحمد , لأن فيها ذكر الحمد ; كما يقال : سورة الأعراف , والأنفال , والتوبة , ونحوها . ( الثالث ) : فاتحة الكتاب , من غير خلاف بين العلماء ; وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا , وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا , وتفتتح بها الصلوات . ( الرابع ) : أم الكتاب , وفي هذا الاسم خلاف , جوزه الجمهور , وكرهه أنس والحسن وابن سيرين . قال الحسن : أم الكتاب الحلال والحرام , قال الله تعالى : " آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " [ آل عمران : 7 ] . وقال أنس وابن سيرين : أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ . قال الله تعالى : " وإنه في أم الكتاب " . [ الزخرف : 4 ] . ( الخامس ) : أم القرآن , واختلف فيه أيضا , فجوزه الجمهور , وكرره أنس وابن سيرين ; والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين . روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني ) قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري قال : وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف , ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وقال يحيى بن يعمر : أم القرى : مكة , وأم خراسان : مرو , وأم القرآن : سورة الحمد . وقيل : سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه , وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت , ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل , والأرض أما , في قول أمية بن أبي الصلت : فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد ويقال لراية الحرب : أم ; لتقدمها واتباع الجيش لها. وأصل أم أمهة , ولذلك تجمع على أمهات , قال الله تعالى : " وأمهاتكم " . ويقال أمات بغير هاء . قال : فرجت الظلام بأماتكا وقيل : إن أمهات في الناس , وأمات في البهائم ; حكاه ابن فارس في المجمل. ( السادس ) : المثاني , سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل : سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها . ( السابع ) : القرآن العظيم , سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن , وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله , وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها , والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى , وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ; وكفاية أحوال الناكثين , وعلى بيانه عاقبة الجاحدين. ( الثامن ) : الشفاء , روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ) . ( التاسع ) : الرقية , ثبت ذلك من حديث أبي سعيد الخدري وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل , الذي رقى سيد الحي : ( ما أدراك أنها رقية ) فقال : يا رسول الله شيء ألقي في روعي ; الحديث . خرجه الأئمة , وسيأتي بتمامه . ( العاشر ) : الأساس , شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة ; فقال : عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب , سمعت ابن عباس يقول : لكل شيء أساس , وأساس الدنيا مكة , لأنها منها دحيت ; وأساس السموات عريبا , وهي السماء السابعة ; وأساس الأرض عجيبا , وهي الأرض السابعة السفلى ; وأساس الجنان جنة عدن , وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة ; وأساس النار جهنم , وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات , وأساس الخلق آدم , وأساس الأنبياء نوح ; وأساس بني إسرائيل يعقوب ; وأساس الكتب القرآن ; وأساس القرآن الفاتحة ; وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ; فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى . ( الحادي عشر ) : الوافية , قاله سفيان بن عيينة , لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال , ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة , ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ; ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز . ( الثاني عشر ) : الكافية , قال يحيى بن أبي كثير : لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها . يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا ) . الخامسة : قال المهلب : إن موضع الرقية منها إنما هو " إياك نعبد وإياك نستعين " [ الفاتحة : الآية 5 ] . وقيل : السورة كلها رقية , لقوله عليه السلام للرجل لما أخبره : ( وما أدراك أنها رقية ) ولم يقل : أن فيها رقية ; فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية , لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه , ومتضمنة لجميع علومه , كما تقدم والله أعلم. السادسة : ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك , قال الله عز وجل : " كتابا متشابها مثاني " [ الزمر : 23 ] فأطلق على كتابه : مثاني ; لأن الأخبار تثنى فيه . وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني ; لأن الفرائض والقصص تثنى فيها . قال ابن عباس : أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني ; قال : السبع الطول . ذكره النسائي , وهي من " البقرة " إلى " الأعراف " ست , واختلفوا في السابعة , فقيل : يونس , وقيل : الأنفال والتوبة ; وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير . وقال أعشى همدان : فلجوا المسجد وادعوا ربكم وادرسوا هذي المثاني والطول وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر " إن شاء الله تعالى . السابعة : المثاني جمع مثنى , وهي التي جاءت بعد الأولى , والطول جمع أطول . وقد سميت الأنفال من المثاني لأنها تتلو الطول في القدر . وقيل : هي التي تزيد آياتها على المفصل وتنقص عن المئين. والمئون : هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية . [ الباب الثاني - في نزولها وأحكامها ] وفيه عشرون مسألة الأولى : أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات ; إلا ما روي عن حسين الجعفي : أنها ست ; وهذا شاذ. وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل " إياك نعبد " آية , وهي على عدة ثماني آيات ; وهذا شاذ . وقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " [ الحجر : 87 ] , وقوله : ( قسمت الصلاة ) الحديث , يرد هذين القولين . وأجمعت الأمة أيضا على أنها من القرآن . فإن قيل : لو كانت قرآنا لأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه , فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن , كالمعوذتين عنده. فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري قال : حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال : أظنه عن إبراهيم قال : قيل لعبد الله بن مسعود : لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك ؟ قال لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة . قال أبو بكر : يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها , فقال : اختصرت بإسقاطها , ووثقت بحفظ المسلمين لها , ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سوره , إذ كانت تتقدمها في الصلاة. الثانية : اختلفوا أهي مكية أم مدنية ؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رفيع - وغيرهم : هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم : هي مدنية . ويقال : نزل نصفها بمكة , ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره . والأول أصح لقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " [ الحجر : 87 ] والحجر مكية بإجماع . ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة . وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين " ; يدل على هذا قوله عليه السلام : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . وهذا خبر عن الحكم , لا عن الابتداء , والله أعلم. وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن ; فقيل : المدثر , وقيل : اقرأ , وقيل : الفاتحة. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : ( إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا ) قالت : معاذ الله ! ما كان الله ليفعل بك , فوالله إنك لتؤدي الأمانة , وتصل الرحم , وتصدق الحديث . فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له , قالت : يا عتيق , اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده , فقال : انطلق بنا إلى ورقة , فقال : ( ومن أخبرك ) . قال : خديجة , فانطلقا إليه فقصا عليه ; فقال : ( إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض ) فقال : لا تفعل , إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني . فلما خلا ناداه : يا محمد , قل " بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين - حتى بلغ ولا الضالين " , قل : لا إله إلا الله . فأتى ورقة فذكر ذلك له ; فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر , فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم , وأنك على مثل ناموس موسى , وأنك نبي مرسل , وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا , وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك . فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني ) يعني ورقة . قال البيهقي رضي الله عنه : هذا منقطع . يعني هذا الحديث , فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعدما نزل عليه " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] و " يا أيها المدثر " [ المدثر : 1 ] . الثالثة : قال ابن عطية : ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد ; لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم , سمع نقيضا من فوقه , فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم , فنزل منه ملك , فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ; فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب , وخواتيم سورة البقرة ; لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته . قال ابن عطية : وليس كما ظن , فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلما به وبما ينزل معه ; وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها ; والله أعلم . قلت : الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك . وقد بينا أن نزولها كان بمكة , نزل بها جبريل عليه السلام , لقوله تعالى : " نزل به الروح الأمين " [ الشعراء : 193 ] وهذا يقتضي جميع القرآن , فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة , ونزل الملك بثوابها بالمدينة . والله أعلم. وقد قيل : إنها مكية مدنية , نزل بها جبريل مرتين ; حكاه الثعلبي . وما ذكرناه أولى . فإنه جمع بين القرآن والسنة , ولله الحمد والمنة . الرابعة : قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح , وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت , ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا , لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما , وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت , قال بها جماعة من العلماء ; فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك , تبارك اسمك , وتعالى جدك , ولا إله غيرك . وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي . وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال : ( وجهت وجهي ) الحديث , ذكره مسلم , وسيأتي بتمامه في آخر سورة الأنعام , وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله. قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ يقول : ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) واستعمل ذلك أبو هريرة . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة. وكان الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب . الخامسة : واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ; فقال مالك وأصحابه : هي متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي : لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه . واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية ; فقال مرة : يعيد الصلاة , وقال مرة أخرى : يسجد سجدتي السهو ; وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك . قال ابن خويز منداد وقد قيل : إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال ابن عبد البر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها , كمن أسقط سجدة سهوا . وهو اختيار ابن القاسم . وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني : إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة ; لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن ; وهي تامة لقوله عليه السلام : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) وهذا قد قرأ بها . قلت : ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة , وهو الصحيح على ما يأتي . ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات , وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم . وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه ; على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أقله ثلاث , آيات أو آية طويله كآية الدين. وعن محمد بن الحسن أيضا قال : أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة ; نحو : " الحمد لله " ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما . وقال الطبري : يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة , فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها . قال ابن عبد البر : وهذا لا معنى له ; لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ; ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها , وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها , كسائر المفروضات المتعينات في العبادات. السادسة : وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة ; لإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ , وهي المسألة : السابعة : ولا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر ; فإن فعل فقد أساء ; ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه. وأما إذا جهر الإمام وهي المسألة : الثامنة : فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك ; لقول الله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] , وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما لي أنازع القرآن ) , وقوله في الإمام : ( إذا قرأ فأنصتوا ) , وقول : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) . وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل : لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة , إماما كان أو مأموما , جهر إمامه أو أسر . وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم : يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر ; كمشهور مذهب مالك. وقال بمصر : فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان : أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه ألا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام. حكاه ابن المنذر . وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب والكوفيون : لا يقرأ المأموم شيئا , جهر إمامه أو أسر ; لقوله عليه السلام : ( فقراءة الإمام له قراءة ) وهذا عام , ولقول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام . التاسعة : الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر , وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ) , وقوله : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) ثلاثا . وقال أبو هريرة : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه : ( لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى , فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها ; وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي , وروي مثله عن الأوزاعي ; وبه قال مكحول . وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي ; فهؤلاء الصحابة بهم القدوة , وفيهم الأسوة , كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة. وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال : حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن فضيل , ح , وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة : ( وافعل ذلك في صلاتك كلها ) وسيأتي . ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال : أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح ; فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس , وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم , وأبو نعيم يجهر بالقراءة ; فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن ; فلما انصرف قلت لعبادة : سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر ؟ قال : أجل ! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه ; فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : ( هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة ) ؟ فقال بعضنا : إنا نصنع ذلك ; قال : ( فلا . وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن ) . وهذا نص صريح في المأموم . وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه ; وقال : حديث حسن . والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ; وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق , يرون القراءة خلف الإمام . وأخرجه أيضا الدارقطني وقال : هذا إسناد حسن , ورجاله كلهم ثقات ; وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء , وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس . وقال أبو محمد عبد الحق : ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ; ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا . وقال فيه أبو عمر : مجهول . وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال : سألت عمر عن القراءة خلف الإمام , فأمرني أن أقرأ , قلت : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ; قلت : وإن جهرت ؟ قال : وإن جهرت. قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح . وروي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا ) . قال أبو حاتم : هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام ; وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له : إني أحيانا أكون وراء الإمام , ثم استدل بقوله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرءوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين ) الحديث . العاشرة : أما ما استدل به الأولون بقوله عليه السلام : ( وإذا قرأ فأنصتوا ) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ; وقال : وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة ( وإذا قرأ فأنصتوا ) قال الدارقطني : هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة ; وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها ; منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة . قال الدارقطني : فإجماعهم يدل على وهمه . وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ; ولكن ليس هو بالقوي , تركه القطعان . وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال : هذه الزيادة ( إذا قرأ فأنصتوا ) ليست بمحفوظة . وذكر أبو محمد عبد الحق : أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال : هو عندي صحيح . قلت : ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها . وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر . وأما قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] فإنه نزل بمكة , وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها ; فإن المقصود كان المشركين , على ما قال سعيد بن المسيب . وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : عبد الله بن عامر ضعيف . وأما قوله عليه السلام : ( ما لي أنازع القرآن ) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي , واسمه فيما قال مالك : عمرو , وغيره يقول عامر , وقيل يزيد , وقيل عمارة , وقيل عباد , يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة , لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد , وهو ثقة , وروى عنه محمد بن عمرو وغيره. والمعنى في حديثه : لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج , اقرءوا في أنفسكم . يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين . فلو فهم المنع جملة من قوله : ( ما لي أنازع القرآن ) لما أفتى بخلافه , وقول الزهري في حديث ابن أكيمة : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة , حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم , يريد بالحمد على ما بينا ; وبالله توفيقنا . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك , وأبو حنيفة وهو ضعيف ; كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر . أخرجه الدارقطني وقال : رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم , عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وأما قول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام ; فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله . قال ابن عبد البر : ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ . وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن ; وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب . وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة ; وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره . الحادية عشرة : قال ابن العربي : لما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال , أو على الإجزاء ؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر , ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم , كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت . ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة ; فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( افعل ذلك في صلاتك كلها ) لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود . والله أعلم . الثانية عشرة : ما ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين , وأنها وغيرها من آي القرآن سواء . وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه ; وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله : " وأقيموا الصلاة " . وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر . فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للأعرابي : ( اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) ما زاد على الفاتحة , وهو تفسير قوله تعالى : " فاقرءوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن - زاد في رواية - فصاعدا " . وقوله عليه السلام : ( هي خداج - ثلاثا - غير تمام ) أي غير مجزئة بالأدلة المذكورة . والخداج : النقص والفساد . قال الأخفش : خدجت الناقة ; إذا ألقت ولدها لغير تمام , وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق . والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة , لأنها صلاة لم تتم ; ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر , على حسب حكمها . ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل , ولا سبيل إليه من وجه يلزم , والله أعلم. الثالثة عشرة : روي عن مالك أن القراءة لا تجب في شيء في الصلاة ; وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها , ثم رجع عن هذا بمصر فقال : لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها , ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها ; فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها . وهذا هو الصحيح في المسألة . وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها , فذكر ذلك له فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسن , قال : لا بأس إذا , فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد , لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر , ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر , وكلاهما منقطع لا حجة فيه ; وقد ذكره مالك في الموطأ , وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه , لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة , وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة ; وهو الصحيح عنه . روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة . قال ابن عبد البر : وهذا حديث متصل شهده همام من عمر ; روي ذلك من وجوه . وروى أشهب عن مالك قال : سئل مالك عن الذي نسي القراءة , أيعجبك ما قال عمر ؟ فقال : أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال : يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به ! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا . الرابعة عشرة : أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة , على ما تقدم من أصولهم في ذلك . وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب , إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مالك : وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة , وفي الأخريين بفاتحة الكتاب . وقال الأوزاعي : يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه , وقال : وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد . وقال الثوري : يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة , ويسبح في الأخريين إن شاء , وإن شاء قرأ , وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته , وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين . قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين , وبه قال النخعي . قال سفيان : فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة . قال : وكذلك إن نسي أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر. وقال أبو ثور : لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة , كقول الشافعي الم
مواضيع مماثلة
» سورة الفاتحة آية رقم 1
» سورة الفاتحة آية رقم 3
» سورة الفاتحة آية رقم 4
» سورة الفاتحة آية رقم 5
» سورة الفاتحة آية رقم 6
» سورة الفاتحة آية رقم 3
» سورة الفاتحة آية رقم 4
» سورة الفاتحة آية رقم 5
» سورة الفاتحة آية رقم 6
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى