بيان ما يحرم به المحرمون
بيان ما يحرم به المحرمون
بيان ما يحرم به المحرمون
( فصل ) : وأما بيان ما يحرم به ، فما يحرم به في الأصل ثلاثة أنواع : الحج وحده ، والعمرة وحدها ، والعمرة مع الحج ، وعلى حسب تنوع المحرم به يتنوع المحرمون ، وهم في الأصل أنواع ثلاثة : مفرد بالحج ، ومفرد بالعمرة ، وجامع بينهما ، فالمفرد بالحج هو الذي يحرم بالحج لا غير ، والمفرد بالعمرة هو الذي يحرم بالعمرة لا غير . وأما الجامع بينهما فنوعان : قارن ، ومتمتع ، فلا بد من بيان معنى القارن والمتمتع في عرف الشرع ، وبيان ما يجب عليهما بسبب القران والتمتع ، وبيان الأفضل من أنواع ما يحرم به : أنه الإفراد أو القران أو التمتع . أما القارن في عرف الشرع ، فهو اسم لآفاقي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن العمرة ، وهو الطواف كله أو أكثره ، فيأتي بالعمرة أولا ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير ، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول ، حتى لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة أو أكثره كان قارنا لوجود معنى القران ، وهو الجمع بين الإحرامين وشرطه ، ولو كان إحرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارنا ، بل يكون متمتعا لوجود معنى التمتع ، وهو أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله وهو الطواف سبعة أشواط ، أو أكثره وهو أربعة أشواط على ما نذكر في تفسير المتمتع إن شاء الله تعالى . وكذلك لو أحرم بالحجة أولا ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة يكون قارنا لإتيانه بمعنى القران ، إلا أنه يكره له ذلك ؛ لأنه مخالفة السنة ؛ إذ السنة تقديم إحرام العمرة على إحرام الحج . ألا ترى أنه يقدم العمرة على الحجة في الفعل فكذا في القول ، ثم إذا فعل ذلك ينظر ، إن أحرم بالعمرة قبل أن يطوف لحجته عليه أن يطوف أولا لعمرته ويسعى لها ثم يطوف لحجته ويسعى لها مراعاة للترتيب في الفعل ، فإن لم يطف للعمرة ، ومضى إلى عرفات ، ووقف بها صار رافضا لعمرته ؛ لأن العمرة تحتمل الارتفاض لأجل الحجة في الجملة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها { أنها قدمت مكة معتمرة فحاضت ، فقال لها النبي : صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك ، وأهلي بالحج ، واصنعي في حجتك ما يصنع الحاج } ، وههنا وجد دليل الارتفاض ، وهو الوقوف بعرفة ؛ لأنه اشتغال بالركن الأصلي للحج فيتضمن ارتفاض العمرة ضرورة ، لفوات الترتيب في الفعل ، وهل يرتفض بنفس التوجه إلى عرفات ؟ ، ذكر في الجامع الصغير أنه لا يرتفض ، وذكر في كتاب المناسك فيه القياس والاستحسان ، فقال : القياس أن يرتفض ، وفي الاستحسان لا يرتفض ، عنى به القياس على أصل أبي حنيفة في باب الصلاة فيمن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ثم خرج إلى الجمعة أنه يرتفض ظهره عنده ، كذا ههنا ينبغي أن ترتفض عمرته بالقياس على ذلك إلا أنه استحسن وقال : لا يرتفض ما لم يقف بعرفات ، وفرق بين العمرة وبين الصلاة . ووجه الفرق له أن السعي إلى الجمعة من ضرورات أداء الجمعة ، وأداء الجمعة ينافي بقاء الظهر فكذا ما هو من ضروراته إذ الثابت ضرورة شيء ملحق به ، وههنا التوجه إلى عرفات وإن كان من ضرورات الوقوف بها ، لكن الوقوف لا ينافي بقاء العمرة صحيحة ، فإن عمرة القارن والمتمتع تبقى صحيحة مع الوقوف بعرفة ، وإنما الحاجة ههنا إلى مراعاة الترتيب في الأفعال ، فما لم توجد أركان الحج قبل أركان العمرة لا يوجد فوات الترتيب ، وذلك هو الوقوف بعرفة ، فأما التوجه فليس بركن ، فلا يوجب فوات الترتيب في الأفعال ، وإن كان طاف للحج ثم أحرم بالعمرة فالمستحب له أن يرفض عمرته لمخالفته السنة في الفعل ، إذ السنة هي تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج ، فإذا ترك التقديم فقد تحققت البدعة فيستحب له أن يرفض لكن لا يؤمر بذلك حتما ؛ لأن المؤدى من أفعال الحج ، وهو طواف اللقاء ليس بركن ، ولو مضى عليها أجزأه ؛ لأنه أتى بأصل النسك ، وإنما ترك السنة بترك الترتيب في الفعل ، وإنه يوجب الإساءة دون الفساد ، وعليه دم القران ؛ لأنه قارن لجمعه بين إحرام الحجة والعمرة ، والقران جائز مشروع ، ولو رفضها يقضيها ؛ لأنها لزمته بالشروع فيها ، وعليه دم لرفضها ؛ لأن رفض العمرة فسخ للإحرام بها ، وأنه أعظم من إدخال النقص في الإحرام ، وذا يوجب الدم فهذا أولى ، والله تعالى أعلم .
وأما المتمتع في عرف الشرع : فهو اسم لآفاقي يحرم بالعمرة ، ويأتي بأفعالها من الطواف والسعي ، أو يأتي بأكثر ركنها . وهو الطواف أربعة أشواط أو أكثر في أشهر الحج ، ثم يحرم بالحج في أشهر الحج ، ويحج من عامه ذلك قبل أن يلم بأهله فيما بين ذلك إلماما صحيحا ، فيحصل له النسكان في سفر واحد ، سواء حل من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير ، أو لم يحل ، إذا كان ساق الهدي لمتعته فإنه لا يجوز التحلل بينهما . ويحرم بالحج قبل أن يحل من إحرام العمرة ، وهذا عندنا . وقال الشافعي : سوق الهدي لا يمنع من التحلل فصار المتمتع نوعين : متمتع لم يسق الهدي ، ومتمتع ساق الهدي فالذي لم يسق الهدي يجوز له التحلل إذا فرغ من أفعال العمرة بلا خلاف ، وإذا تحلل صار حلالا كسائر المتحللين إلى أن يحرم بالحج ؛ لأنه إذا تحلل من العمرة فقد خرج منها ، ولم يبق عليه شيء فيقيم بمكة حلالا أي لا يلم بأهله ؛ لأن الإلمام بالأهل يفسد التمتع . وأما الذي ساق الهدي ، فإنه لا يحل له التحلل إلا يوم النحر بعد الفراغ من الحج عندنا ، وعند الشافعي يحل له التحلل ، وسوق الهدي لا يمنع من التحلل ، والصحيح قولنا لما روي عن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلقوا إلا من كان معه الهدي } ، وفي حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلق } . وروي { أنه لما أمر أصحابه أن يحلقوا قالوا له : إنك لم تحل ، فقال : إني سقت الهدي فلا أحل من إحرامي إلى يوم النحر } . وقال : صلى الله عليه وسلم { لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وتحللت كما أحلوا } فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي منعه من الحل سوق الهدي ، ولأن لسوق الهدي أثرا في الإحرام حتى يصير به داخلا في الإحرام ، فجاز أن يكون له أثر في حال البقاء حتى يمنع من التحلل ، وسواء كان إحرامه للعمرة في أشهر الحج أو قبلها عندنا ، بعد أن يأتي بأفعال العمرة أو ركنها أو بأكثر الركن في الأشهر أنه يكون متمتعا . وعند الشافعي شرط كونه متمتعا : الإحرام بالعمرة في الأشهر ، حتى لو أحرم بها قبل الأشهر لا يكون متمتعا ، وإن أتى بأفعالها في الأشهر ، والكلام فيه بناء على أصل قد ذكرناه فيما تقدم ، وهو أن الإحرام عنده ركن فكان من أفعال العمرة ، فلا بد من وجود أفعال العمرة في أشهر الحج ، ولم يوجد بل وجد بعضها في الأشهر . وعندنا ليس بركن ، بل هو شرط فتوجد أفعال العمرة في الأشهر فيكون متمتعا ، وليس لأهل مكة ، ولا لأهل داخل المواقيت التي بينها وبين مكة : قران ولا تمتع . وقال الشافعي : يصح قرانهم وتمتعهم . وجه قوله قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } من غير فصل بين أهل مكة وغيرهم ، ولنا قوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } جعل التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام على الخصوص ؛ لأن اللام للاختصاص ثم حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة . وقال مالك : هم أهل مكة خاصة ؛ لأن معنى الحضور لهم . وقال الشافعي : هم أهل مكة . ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة ؛ لأنه إذا كان كذلك كان من توابع مكة ، وإلا فلا ، والصحيح قولنا ؛ لأن الذين هم داخل المواقيت الخمسة منازلهم من توابع مكة ، بدليل أنه يحل لهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام ، فكانوا في حكم حاضري المسجد الحرام . وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس لأهل مكة تمتع ، ولا قران ، ولأن دخول العمرة في أشهر الحج ثبت رخصة لقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } قيل في بعض وجوه التأويل : أي للحج أشهر معلومات ، واللام للاختصاص فيقتضي اختصاص هذه الأشهر بالحج ، وذلك بأن لا يدخل فيها غيره إلا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر إنشاء السفر للعمرة نظرا له بإسقاط أحد السفرين ، وهذا المعنى لا يوجد في حق أهل مكة . ومن بمعناهم فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم . وكذا روي عن ذلك الصحابي أنه قال : كنا نعد العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر ثم رخص ، والثابت بطريق الرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة ، والضرورة في حق أهل الآفاق لا في حق أهل مكة على ما بينا ، فبقيت العمرة في أشهر الحج في حقهم معصية ، ولأن من شرط التمتع أن تحصل العمرة والحج للمتمتع في أشهر الحج من غير أن يلم بأهله فيما بينهما . وهذا لا يتحقق في حق المكي ؛ لأنه يلم بأهله فيما بينهما لا محالة فلم يوجد شرط التمتع في حقه . ولو جمع المكي بين العمرة والحج في أشهر الحج فعليه دم ، لكن دم كفارة الذنب لا دم نسك ، شكرا للنعمة عندنا حتى لا يباح له أن يأكل منه ، ولا يقوم الصوم مقامه إذا كان معسرا ، وعنده هو دم نسك ، يجوز له أن يأكل منه ، ويقوم الصوم مقامه إذا لم يجد الهدي . ولو أحرم الآفاقي بالعمرة قبل أشهر الحج فدخل مكة محرما بالعمرة ، وهو يريد التمتع فينبغي أن يقيم محرما حتى تدخل أشهر الحج فيأتي بأفعال العمرة ، ثم يحرم بالحج ويحج من عامه ذلك فيكون متمتعا ، فإن أتى بأفعال العمرة أو بأكثرها قبل أشهر الحج ثم دخل أشهر الحج فأحرم بالحج وحج من عامه ذلك ، لم يكن متمتعا ؛ لأنه لم يتم له الحج والعمرة في أشهر الحج . ولو أحرم بعمرة أخرى بعد ما دخل أشهر الحج لم يكن متمتعا في قولهم جميعا ؛ لأنه صار في حكم أهل مكة بدليل أنه صار ميقاتهم ميقاته ، فلا يصح له التمتع إلا أن يعود إلى أهله ثم يعود إلى مكة محرما بالعمرة في قول أبي حنيفة ، وفي قولهما : إلا أن يعود إلى أهله أو إلى موضع يكون لأهله التمتع والقران على ما نذكر . ولو أحرم من لا تمتع له من المكي ونحوه بعمرة ، ثم أحرم بحجة يلزمه رفض أحدهما ؛ لأن الجمع بينهما معصية ، والنزوع عن المعصية لازم ثم ينظر : إن أحرم بعمرة ثم أحرم بحجة قبل أن يطوف لعمرته رأسا فإنه يرفض العمرة ؛ لأنها أقل عملا ، والحج أكثر عملا فكانت العمرة أخف مؤنة من الحجة فكان رفضها أيسر ، ولأن المعصية حصلت بسببها ؛ لأنها هي التي دخلت في وقت الحج فكانت أولى بالرفض ، ويمضي على حجته ، وعليه لرفض عمرته دم ، وعليه قضاء العمرة لما نذكر ، وإن كان طاف لعمرته جميع الطواف أو أكثره لا يرفض العمرة ، بل يرفض الحج ؛ لأن العمرة مؤداة ، والحج غير مؤدى فكان رفض الحج امتناعا عن الأداء ، ورفض العمرة إبطالا للعمل ، والامتناع عن العمل دون إبطال العمرة فكان أولى ، وإن كان طاف لها شوطا أو شوطين أو ثلاثة يرفض الحج في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد يرفض العمرة . وجه قولهما أن رفض العمرة أدنى ، وأخف مؤنة ، ألا ترى أنها سميت الحجة الصغرى فكانت أولى بالرفض ، ولا عبرة بالقدر المؤدى منها ؛ لأنه أقل ، والأكثر غير مؤدى ، والأقل بمقابلة الأكثر ملحق بالعدم فكأنه لم يؤد شيئا منها ، والله أعلم . ولأبي حنيفة أن رفض الحجة امتناع من العمل ، ورفض العمرة إبطال للعمل ، والامتناع دون الإبطال فكان أولى ، وبيان ذلك أنه لم يوجد للحج عمل ؛ لأنه لم يوجد له إلا الإحرام ، وأنه ليس من الأداء في شيء ؛ لأنه شرط وليس بركن عندنا على ما بينا فيما تقدم ، فلا يكون رفض الحج إبطالا للعمل بل يكون امتناعا ، فأما العمرة فقد أدى منها شيئا وإن قل ، وكان رفضها إبطالا لذلك القدر من العمل ، فكان الامتناع أولى لما قلنا ، وإذا رفض الحجة عنه فعليه لرفضها دم ، وقضاء حجة ، وعمرة ، وإذا رفض العمرة عندهما فعليه لرفضها دم وقضاء عمرة ، والأصل في جنس هذه المسائل أن كل من لزمه رفض عمرة فرفضها ، فعليه لرفضها دم ؛ لأنه تحلل منها قبل وقت التحلل ، فيلزمه الدم كالمحصر ، وعليه عمرة مكانها قضاء ؛ لأنها قد وجبت عليه بالشروع ، فإذا أفسدها يقضيها . وكل من لزمه رفض حجة فرفضها فعليه لرفضها دم ، وعليه حجة وعمرة أما لزوم الدم لرفضها فلما ذكرنا في العمرة . وأما لزوم الحجة والعمرة ، فأما الحجة فلوجوبها بالشروع ، وأما العمرة فلعدم إتيانه بأفعال الحجة في السنة التي أحرم فيها فصار كفائت الحج ، فيلزمه العمرة كما يلزم فائت الحج ، فإن أحرم بالحجة من سنته فلا عمرة عليه ، وكل من لزمه رفض أحدهما فمضى فيها فعليه دم ؛ لأن الجمع بينهما معصية فقد أدخل النقص في أحدهما فيلزمه دم ، لكنه يكون دم كفارة لا دم متعة ، حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، ولا يجزئه الصوم إن كان معسرا . ومما يتصل بهذه المسائل ما إذا أحرم بحجتين معا أو بعمرتين معا ، قال أبو حنيفة وأبو يوسف : لزمتاه جميعا . وقال محمد : لا يلزمه إلا إحداهما ، وبه أخذ الشافعي . وجه قول محمد أنه إذا أحرم بعبادتين لا يمكنه المضي فيهما جميعا ، فلا ينعقد إحرامه بهما جميعا ، كما لو أحرم بصلاتين أو صومين ، بخلاف ما إذا أحرم بحجة وعمرة ؛ لأن المضي فيهما ممكن فيصح إحرامه بهما كما لو نوى صوما وصلاة ، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه أحرم بما يقدر عليه في وقتين ، فيصح إحرامه كما لو أحرم بحجة وعمرة معا ، وثمرة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الجزاء ، إذا قتل صيدا عندهما يجب جزاءان لانعقاد الإحرام بهما جميعا . وعنده يجب جزاء واحد لانعقاد الإحرام بإحداهما ، ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في وقت ارتفاض إحداهما عند أبي يوسف يرتفض عقيب الإحرام بلا فصل ، وعن أبي حنيفة روايتان : في الرواية المشهورة عنه يرتفض إذا قصد مكة ، وفي رواية لا يرتفض حتى يبتدئ بالطواف . ولو أحرم الآفاقي بالعمرة فأداها في أشهر الحج وفرغ منها ، وحل من عمرته ، ثم عاد إلى أهله حلالا ، ثم رجع إلى مكة وأحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك : لم يكن متمتعا حتى لا يلزمه الهدي بل يكون مفردا بعمرة ، ومفردا بحجة ؛ لأنه ألم بأهله بين الإحرامين إلماما صحيحا ، وهذا يمنع التمتع . وقال الشافعي : لا أعرف الإلمام ، ونحن نقول : إن كنت لا تعرف معناه لغة فمعناه في اللغة القرب ، يقال : ألم به أي قرب منه . وإن كنت لا تعرف حكمه شرعا ، فحكمه أن يمنع التمتع لما روي عن عمر ، وابن عمر : رضي الله عنهما أن المتمتع إذا أقام بمكة صح تمتعه ، وإن عاد إلى أهله بطل تمتعه وكذا روي عن جماعة من التابعين مثل سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وطاوس ، وعطاء رضي الله عنهم أنهم قالوا كذلك ، ومثل هذا لا يعرف رأيا واجتهادا ، فالظاهر سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن التمتع في حق الآفاقي ثبت رخصة ليجمع بين النسكين ، ويصل أحدهما بالآخر في سفر واحد من غير أن يتخلل بينهما ما ينافي النسك ، وهو الارتفاق ، ولما ألم بأهله فقد حصل له مرافق الوطن فبطل الاتصال ، والله تعالى أعلم .
ولو رجع إلى مكة بعمرة أخرى ، وحج كان متمتعا ؛ لأن حكم العمرة الأولى قد سقط بإلمامه بأهله فيتعلق الحكم بالثانية ، وقد جمع بينهما وبين الحجة في أشهر الحج من غير إلمام فكان متمتعا . ولو كان إلمامه بأهله بعد ما طاف لعمرته قبل أن يحلق أو يقصر ، ثم حج من عامه ذلك قبل أن يحل من العمرة في أهله فهو متمتع ؛ لأن العود مستحق عليه لأجل الحلق ؛ لأن من جعل الحرم شرطا لجواز الحلق - وهو أبو حنيفة ومحمد - لا بد من العود ، وعند من لم يجعله شرطا ، وهو أبو يوسف كان العود مستحبا إن لم يكن مستحقا .
( فصل ) : وأما بيان ما يحرم به ، فما يحرم به في الأصل ثلاثة أنواع : الحج وحده ، والعمرة وحدها ، والعمرة مع الحج ، وعلى حسب تنوع المحرم به يتنوع المحرمون ، وهم في الأصل أنواع ثلاثة : مفرد بالحج ، ومفرد بالعمرة ، وجامع بينهما ، فالمفرد بالحج هو الذي يحرم بالحج لا غير ، والمفرد بالعمرة هو الذي يحرم بالعمرة لا غير . وأما الجامع بينهما فنوعان : قارن ، ومتمتع ، فلا بد من بيان معنى القارن والمتمتع في عرف الشرع ، وبيان ما يجب عليهما بسبب القران والتمتع ، وبيان الأفضل من أنواع ما يحرم به : أنه الإفراد أو القران أو التمتع . أما القارن في عرف الشرع ، فهو اسم لآفاقي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن العمرة ، وهو الطواف كله أو أكثره ، فيأتي بالعمرة أولا ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير ، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول ، حتى لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة أو أكثره كان قارنا لوجود معنى القران ، وهو الجمع بين الإحرامين وشرطه ، ولو كان إحرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارنا ، بل يكون متمتعا لوجود معنى التمتع ، وهو أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله وهو الطواف سبعة أشواط ، أو أكثره وهو أربعة أشواط على ما نذكر في تفسير المتمتع إن شاء الله تعالى . وكذلك لو أحرم بالحجة أولا ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة يكون قارنا لإتيانه بمعنى القران ، إلا أنه يكره له ذلك ؛ لأنه مخالفة السنة ؛ إذ السنة تقديم إحرام العمرة على إحرام الحج . ألا ترى أنه يقدم العمرة على الحجة في الفعل فكذا في القول ، ثم إذا فعل ذلك ينظر ، إن أحرم بالعمرة قبل أن يطوف لحجته عليه أن يطوف أولا لعمرته ويسعى لها ثم يطوف لحجته ويسعى لها مراعاة للترتيب في الفعل ، فإن لم يطف للعمرة ، ومضى إلى عرفات ، ووقف بها صار رافضا لعمرته ؛ لأن العمرة تحتمل الارتفاض لأجل الحجة في الجملة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها { أنها قدمت مكة معتمرة فحاضت ، فقال لها النبي : صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك ، وأهلي بالحج ، واصنعي في حجتك ما يصنع الحاج } ، وههنا وجد دليل الارتفاض ، وهو الوقوف بعرفة ؛ لأنه اشتغال بالركن الأصلي للحج فيتضمن ارتفاض العمرة ضرورة ، لفوات الترتيب في الفعل ، وهل يرتفض بنفس التوجه إلى عرفات ؟ ، ذكر في الجامع الصغير أنه لا يرتفض ، وذكر في كتاب المناسك فيه القياس والاستحسان ، فقال : القياس أن يرتفض ، وفي الاستحسان لا يرتفض ، عنى به القياس على أصل أبي حنيفة في باب الصلاة فيمن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ثم خرج إلى الجمعة أنه يرتفض ظهره عنده ، كذا ههنا ينبغي أن ترتفض عمرته بالقياس على ذلك إلا أنه استحسن وقال : لا يرتفض ما لم يقف بعرفات ، وفرق بين العمرة وبين الصلاة . ووجه الفرق له أن السعي إلى الجمعة من ضرورات أداء الجمعة ، وأداء الجمعة ينافي بقاء الظهر فكذا ما هو من ضروراته إذ الثابت ضرورة شيء ملحق به ، وههنا التوجه إلى عرفات وإن كان من ضرورات الوقوف بها ، لكن الوقوف لا ينافي بقاء العمرة صحيحة ، فإن عمرة القارن والمتمتع تبقى صحيحة مع الوقوف بعرفة ، وإنما الحاجة ههنا إلى مراعاة الترتيب في الأفعال ، فما لم توجد أركان الحج قبل أركان العمرة لا يوجد فوات الترتيب ، وذلك هو الوقوف بعرفة ، فأما التوجه فليس بركن ، فلا يوجب فوات الترتيب في الأفعال ، وإن كان طاف للحج ثم أحرم بالعمرة فالمستحب له أن يرفض عمرته لمخالفته السنة في الفعل ، إذ السنة هي تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج ، فإذا ترك التقديم فقد تحققت البدعة فيستحب له أن يرفض لكن لا يؤمر بذلك حتما ؛ لأن المؤدى من أفعال الحج ، وهو طواف اللقاء ليس بركن ، ولو مضى عليها أجزأه ؛ لأنه أتى بأصل النسك ، وإنما ترك السنة بترك الترتيب في الفعل ، وإنه يوجب الإساءة دون الفساد ، وعليه دم القران ؛ لأنه قارن لجمعه بين إحرام الحجة والعمرة ، والقران جائز مشروع ، ولو رفضها يقضيها ؛ لأنها لزمته بالشروع فيها ، وعليه دم لرفضها ؛ لأن رفض العمرة فسخ للإحرام بها ، وأنه أعظم من إدخال النقص في الإحرام ، وذا يوجب الدم فهذا أولى ، والله تعالى أعلم .
وأما المتمتع في عرف الشرع : فهو اسم لآفاقي يحرم بالعمرة ، ويأتي بأفعالها من الطواف والسعي ، أو يأتي بأكثر ركنها . وهو الطواف أربعة أشواط أو أكثر في أشهر الحج ، ثم يحرم بالحج في أشهر الحج ، ويحج من عامه ذلك قبل أن يلم بأهله فيما بين ذلك إلماما صحيحا ، فيحصل له النسكان في سفر واحد ، سواء حل من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير ، أو لم يحل ، إذا كان ساق الهدي لمتعته فإنه لا يجوز التحلل بينهما . ويحرم بالحج قبل أن يحل من إحرام العمرة ، وهذا عندنا . وقال الشافعي : سوق الهدي لا يمنع من التحلل فصار المتمتع نوعين : متمتع لم يسق الهدي ، ومتمتع ساق الهدي فالذي لم يسق الهدي يجوز له التحلل إذا فرغ من أفعال العمرة بلا خلاف ، وإذا تحلل صار حلالا كسائر المتحللين إلى أن يحرم بالحج ؛ لأنه إذا تحلل من العمرة فقد خرج منها ، ولم يبق عليه شيء فيقيم بمكة حلالا أي لا يلم بأهله ؛ لأن الإلمام بالأهل يفسد التمتع . وأما الذي ساق الهدي ، فإنه لا يحل له التحلل إلا يوم النحر بعد الفراغ من الحج عندنا ، وعند الشافعي يحل له التحلل ، وسوق الهدي لا يمنع من التحلل ، والصحيح قولنا لما روي عن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلقوا إلا من كان معه الهدي } ، وفي حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلق } . وروي { أنه لما أمر أصحابه أن يحلقوا قالوا له : إنك لم تحل ، فقال : إني سقت الهدي فلا أحل من إحرامي إلى يوم النحر } . وقال : صلى الله عليه وسلم { لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وتحللت كما أحلوا } فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي منعه من الحل سوق الهدي ، ولأن لسوق الهدي أثرا في الإحرام حتى يصير به داخلا في الإحرام ، فجاز أن يكون له أثر في حال البقاء حتى يمنع من التحلل ، وسواء كان إحرامه للعمرة في أشهر الحج أو قبلها عندنا ، بعد أن يأتي بأفعال العمرة أو ركنها أو بأكثر الركن في الأشهر أنه يكون متمتعا . وعند الشافعي شرط كونه متمتعا : الإحرام بالعمرة في الأشهر ، حتى لو أحرم بها قبل الأشهر لا يكون متمتعا ، وإن أتى بأفعالها في الأشهر ، والكلام فيه بناء على أصل قد ذكرناه فيما تقدم ، وهو أن الإحرام عنده ركن فكان من أفعال العمرة ، فلا بد من وجود أفعال العمرة في أشهر الحج ، ولم يوجد بل وجد بعضها في الأشهر . وعندنا ليس بركن ، بل هو شرط فتوجد أفعال العمرة في الأشهر فيكون متمتعا ، وليس لأهل مكة ، ولا لأهل داخل المواقيت التي بينها وبين مكة : قران ولا تمتع . وقال الشافعي : يصح قرانهم وتمتعهم . وجه قوله قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } من غير فصل بين أهل مكة وغيرهم ، ولنا قوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } جعل التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام على الخصوص ؛ لأن اللام للاختصاص ثم حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة . وقال مالك : هم أهل مكة خاصة ؛ لأن معنى الحضور لهم . وقال الشافعي : هم أهل مكة . ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة ؛ لأنه إذا كان كذلك كان من توابع مكة ، وإلا فلا ، والصحيح قولنا ؛ لأن الذين هم داخل المواقيت الخمسة منازلهم من توابع مكة ، بدليل أنه يحل لهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام ، فكانوا في حكم حاضري المسجد الحرام . وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس لأهل مكة تمتع ، ولا قران ، ولأن دخول العمرة في أشهر الحج ثبت رخصة لقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } قيل في بعض وجوه التأويل : أي للحج أشهر معلومات ، واللام للاختصاص فيقتضي اختصاص هذه الأشهر بالحج ، وذلك بأن لا يدخل فيها غيره إلا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر إنشاء السفر للعمرة نظرا له بإسقاط أحد السفرين ، وهذا المعنى لا يوجد في حق أهل مكة . ومن بمعناهم فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم . وكذا روي عن ذلك الصحابي أنه قال : كنا نعد العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر ثم رخص ، والثابت بطريق الرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة ، والضرورة في حق أهل الآفاق لا في حق أهل مكة على ما بينا ، فبقيت العمرة في أشهر الحج في حقهم معصية ، ولأن من شرط التمتع أن تحصل العمرة والحج للمتمتع في أشهر الحج من غير أن يلم بأهله فيما بينهما . وهذا لا يتحقق في حق المكي ؛ لأنه يلم بأهله فيما بينهما لا محالة فلم يوجد شرط التمتع في حقه . ولو جمع المكي بين العمرة والحج في أشهر الحج فعليه دم ، لكن دم كفارة الذنب لا دم نسك ، شكرا للنعمة عندنا حتى لا يباح له أن يأكل منه ، ولا يقوم الصوم مقامه إذا كان معسرا ، وعنده هو دم نسك ، يجوز له أن يأكل منه ، ويقوم الصوم مقامه إذا لم يجد الهدي . ولو أحرم الآفاقي بالعمرة قبل أشهر الحج فدخل مكة محرما بالعمرة ، وهو يريد التمتع فينبغي أن يقيم محرما حتى تدخل أشهر الحج فيأتي بأفعال العمرة ، ثم يحرم بالحج ويحج من عامه ذلك فيكون متمتعا ، فإن أتى بأفعال العمرة أو بأكثرها قبل أشهر الحج ثم دخل أشهر الحج فأحرم بالحج وحج من عامه ذلك ، لم يكن متمتعا ؛ لأنه لم يتم له الحج والعمرة في أشهر الحج . ولو أحرم بعمرة أخرى بعد ما دخل أشهر الحج لم يكن متمتعا في قولهم جميعا ؛ لأنه صار في حكم أهل مكة بدليل أنه صار ميقاتهم ميقاته ، فلا يصح له التمتع إلا أن يعود إلى أهله ثم يعود إلى مكة محرما بالعمرة في قول أبي حنيفة ، وفي قولهما : إلا أن يعود إلى أهله أو إلى موضع يكون لأهله التمتع والقران على ما نذكر . ولو أحرم من لا تمتع له من المكي ونحوه بعمرة ، ثم أحرم بحجة يلزمه رفض أحدهما ؛ لأن الجمع بينهما معصية ، والنزوع عن المعصية لازم ثم ينظر : إن أحرم بعمرة ثم أحرم بحجة قبل أن يطوف لعمرته رأسا فإنه يرفض العمرة ؛ لأنها أقل عملا ، والحج أكثر عملا فكانت العمرة أخف مؤنة من الحجة فكان رفضها أيسر ، ولأن المعصية حصلت بسببها ؛ لأنها هي التي دخلت في وقت الحج فكانت أولى بالرفض ، ويمضي على حجته ، وعليه لرفض عمرته دم ، وعليه قضاء العمرة لما نذكر ، وإن كان طاف لعمرته جميع الطواف أو أكثره لا يرفض العمرة ، بل يرفض الحج ؛ لأن العمرة مؤداة ، والحج غير مؤدى فكان رفض الحج امتناعا عن الأداء ، ورفض العمرة إبطالا للعمل ، والامتناع عن العمل دون إبطال العمرة فكان أولى ، وإن كان طاف لها شوطا أو شوطين أو ثلاثة يرفض الحج في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد يرفض العمرة . وجه قولهما أن رفض العمرة أدنى ، وأخف مؤنة ، ألا ترى أنها سميت الحجة الصغرى فكانت أولى بالرفض ، ولا عبرة بالقدر المؤدى منها ؛ لأنه أقل ، والأكثر غير مؤدى ، والأقل بمقابلة الأكثر ملحق بالعدم فكأنه لم يؤد شيئا منها ، والله أعلم . ولأبي حنيفة أن رفض الحجة امتناع من العمل ، ورفض العمرة إبطال للعمل ، والامتناع دون الإبطال فكان أولى ، وبيان ذلك أنه لم يوجد للحج عمل ؛ لأنه لم يوجد له إلا الإحرام ، وأنه ليس من الأداء في شيء ؛ لأنه شرط وليس بركن عندنا على ما بينا فيما تقدم ، فلا يكون رفض الحج إبطالا للعمل بل يكون امتناعا ، فأما العمرة فقد أدى منها شيئا وإن قل ، وكان رفضها إبطالا لذلك القدر من العمل ، فكان الامتناع أولى لما قلنا ، وإذا رفض الحجة عنه فعليه لرفضها دم ، وقضاء حجة ، وعمرة ، وإذا رفض العمرة عندهما فعليه لرفضها دم وقضاء عمرة ، والأصل في جنس هذه المسائل أن كل من لزمه رفض عمرة فرفضها ، فعليه لرفضها دم ؛ لأنه تحلل منها قبل وقت التحلل ، فيلزمه الدم كالمحصر ، وعليه عمرة مكانها قضاء ؛ لأنها قد وجبت عليه بالشروع ، فإذا أفسدها يقضيها . وكل من لزمه رفض حجة فرفضها فعليه لرفضها دم ، وعليه حجة وعمرة أما لزوم الدم لرفضها فلما ذكرنا في العمرة . وأما لزوم الحجة والعمرة ، فأما الحجة فلوجوبها بالشروع ، وأما العمرة فلعدم إتيانه بأفعال الحجة في السنة التي أحرم فيها فصار كفائت الحج ، فيلزمه العمرة كما يلزم فائت الحج ، فإن أحرم بالحجة من سنته فلا عمرة عليه ، وكل من لزمه رفض أحدهما فمضى فيها فعليه دم ؛ لأن الجمع بينهما معصية فقد أدخل النقص في أحدهما فيلزمه دم ، لكنه يكون دم كفارة لا دم متعة ، حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، ولا يجزئه الصوم إن كان معسرا . ومما يتصل بهذه المسائل ما إذا أحرم بحجتين معا أو بعمرتين معا ، قال أبو حنيفة وأبو يوسف : لزمتاه جميعا . وقال محمد : لا يلزمه إلا إحداهما ، وبه أخذ الشافعي . وجه قول محمد أنه إذا أحرم بعبادتين لا يمكنه المضي فيهما جميعا ، فلا ينعقد إحرامه بهما جميعا ، كما لو أحرم بصلاتين أو صومين ، بخلاف ما إذا أحرم بحجة وعمرة ؛ لأن المضي فيهما ممكن فيصح إحرامه بهما كما لو نوى صوما وصلاة ، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه أحرم بما يقدر عليه في وقتين ، فيصح إحرامه كما لو أحرم بحجة وعمرة معا ، وثمرة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الجزاء ، إذا قتل صيدا عندهما يجب جزاءان لانعقاد الإحرام بهما جميعا . وعنده يجب جزاء واحد لانعقاد الإحرام بإحداهما ، ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في وقت ارتفاض إحداهما عند أبي يوسف يرتفض عقيب الإحرام بلا فصل ، وعن أبي حنيفة روايتان : في الرواية المشهورة عنه يرتفض إذا قصد مكة ، وفي رواية لا يرتفض حتى يبتدئ بالطواف . ولو أحرم الآفاقي بالعمرة فأداها في أشهر الحج وفرغ منها ، وحل من عمرته ، ثم عاد إلى أهله حلالا ، ثم رجع إلى مكة وأحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك : لم يكن متمتعا حتى لا يلزمه الهدي بل يكون مفردا بعمرة ، ومفردا بحجة ؛ لأنه ألم بأهله بين الإحرامين إلماما صحيحا ، وهذا يمنع التمتع . وقال الشافعي : لا أعرف الإلمام ، ونحن نقول : إن كنت لا تعرف معناه لغة فمعناه في اللغة القرب ، يقال : ألم به أي قرب منه . وإن كنت لا تعرف حكمه شرعا ، فحكمه أن يمنع التمتع لما روي عن عمر ، وابن عمر : رضي الله عنهما أن المتمتع إذا أقام بمكة صح تمتعه ، وإن عاد إلى أهله بطل تمتعه وكذا روي عن جماعة من التابعين مثل سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وطاوس ، وعطاء رضي الله عنهم أنهم قالوا كذلك ، ومثل هذا لا يعرف رأيا واجتهادا ، فالظاهر سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن التمتع في حق الآفاقي ثبت رخصة ليجمع بين النسكين ، ويصل أحدهما بالآخر في سفر واحد من غير أن يتخلل بينهما ما ينافي النسك ، وهو الارتفاق ، ولما ألم بأهله فقد حصل له مرافق الوطن فبطل الاتصال ، والله تعالى أعلم .
ولو رجع إلى مكة بعمرة أخرى ، وحج كان متمتعا ؛ لأن حكم العمرة الأولى قد سقط بإلمامه بأهله فيتعلق الحكم بالثانية ، وقد جمع بينهما وبين الحجة في أشهر الحج من غير إلمام فكان متمتعا . ولو كان إلمامه بأهله بعد ما طاف لعمرته قبل أن يحلق أو يقصر ، ثم حج من عامه ذلك قبل أن يحل من العمرة في أهله فهو متمتع ؛ لأن العود مستحق عليه لأجل الحلق ؛ لأن من جعل الحرم شرطا لجواز الحلق - وهو أبو حنيفة ومحمد - لا بد من العود ، وعند من لم يجعله شرطا ، وهو أبو يوسف كان العود مستحبا إن لم يكن مستحقا .
مواضيع مماثلة
» مجلس الشعب يحرم رموز نظام السابق من الترشح للرئاسة
» بيان فرضية الحــج
» بيان القوات المسلحة رقم 2
» بيان القوات المسلحة رقم 1
» سنن الحج و بيان ترتيب في افعاله
» بيان فرضية الحــج
» بيان القوات المسلحة رقم 2
» بيان القوات المسلحة رقم 1
» سنن الحج و بيان ترتيب في افعاله
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى