حياة الدكتور مصطفي محمود ( 5 )
صفحة 1 من اصل 1
حياة الدكتور مصطفي محمود ( 5 )
الحلقه الخامسه..الصدام مع عبدالناصر
مصطفي محمود
■ إن الاستسلام للمنطق والعقل وحده فيه استئصال لأجمل ما فى الإنسان.. روحه.. ووجدانه.. وضميره ولو لم يكن إبليس موجودا لأوجدناه
■ إننا لا نستطيع أن نعيش دون أن نسمع ذنوبنا
■ هناك شبح نلعنه كل يوم ونرجمه لأنه غرر بنا
■ نحن نساعد فى خلق الأباطرة والجبابرة
■ بل نحن الذين نخلقهم ونشكلهم بأيدينا
■ إن الشياطين من صنع أيدينا والإجرام قرين لكل منا
■ لأننا جميعا أبناء القاتل قابيل
■ لكل منا قرين ولكن يوجد من يسيطر على قرينه ويوجد من يسيطر عليه قرينه
■ إن السم لا يزرع ولا يصنع ولكنه يخرج من حقدنا وحنقنا لبعضنا البعض
■ ولا يحين الموت إلا بعد أن ينتهى الأجل
■ فالموت قرار من الله وحده
مصطفى محمود
مازال المفكر الكبير والفيلسوف مصطفى محمود يفتح حقيبة أسراره ويطلعنا على ما تحويه دفاتره ويخرج كل ما بداخلها من أسرار.. مازال قلبه ينبض.. مازال عقله واعيا يتذكر كل تفاصيل رحلته الطويلة التى قضاها باحثاً عن اليقين يحاول الوصول للحقيقة الغائبة عن الجميع، يقول مصطفى محمود: ليس من السهل أو المعقول أو الطبيعى على الطيور أن تكف عن التحليق فى الفضاء، أو على العصفور أن يسجن فى قفص حتى ولو كان من الذهب والأحجار الكريمة، أو على المفكر أن تحجب أفكاره وترصد الرقابة قلمه وتختار نوع الحبر الذى ينسج به كتاباته،
وبالتالى لم يكن من السهل أن تحجب عنى كل ألوان الحياة من الماء والهواء والضوء والحياة التى تتمثل فى الكتابة والتعبير عن الرأى، وإخراج كل ما يدور داخلى من صراع وأفكار تحاول إثبات حقيقة المسلمات ـ التى تكلمت عنها من قبل ـ ولكن هذه كانت طبيعة الظروف والأحوال فى عهد الديكتاتورية التى مرت بها مصر.. عهد تحرير المصريين لاستعبادهم،
هذا بكل بساطة وصفى ورؤيتى لعهد جمال عبدالناصر فمهما تقدم بى العمر وطعن السن فى الشيخوخة ووصلت إلى أواخر أيامى فلن أنسى ما كان يحدث فى عهده من فتح السجون والمعتقلات ومصادرة الفكر والرأى، وبالطبع عانيت فى تلك الفترة لأننى كنت أحد الكتاب البارزين خاصة بعد أزمة كتابى الأول «الله والإنسان» فكنت أتوقع أنه فى أى لحظة لابد أن يقع بينى وبين عبدالناصر الصدام الذى وقع مع الجميع من قبلى، وبالفعل فوجئت بأن إحسان عبدالقدوس يطلبنى فى مكتبه بـ«روزاليوسف» وتوجهت إليه مباشرة، وعندما دخلت إلى السكرتارية لكى تبلغه بأنى أنتظره فوجدتها تقول لى: ادخل الأستاذ مستنيك على نار منذ أكثر من ساعة ولغى كل مواعيده.
فانتابتنى أفكار بأن هناك شيئاً خطيراً حدث أو منتظراً أن يحدث ولكننى تجاهلت كل هذه الأفكار ودخلت عليه المكتب فوجدته من الوهلة الأولى يقول لى وهو يبتسم: أهلا يا مغلبنى وبسببه طاير النوم من عينى. وكأنه كان يهدأ من وطأة المسألة، وقلت له: خير يا إحسان فى قضايا تانى اترفعت عليا ـ فقد كنت خارجاً من قضية كتاب «الله والإنسان» لسة طازة.. فقال: يا مصطفى اجلس فى البيت.. فقلت له يعنى إيه.. قال صدرت أوامر بمنعك من الكتابة، فقلت من أصدر هذه الأوامر ولماذا أتوقف عن الكتابة؟..
قال يمكن أن يكون بسبب المقالتين اللتين قمت بكتابتهما ونشرهما مؤخرا.. ثم أن أمر الإيقاف من قيادات عليا جدا.. فقلت له مين يعنى.. الراجل الكبير.. هز رأسه بالإجابة «نعم» وقال: يا مصطفى احمد ربنا إن المسألة منع من الكتابة بس ومفيش اعتقال ولا سجن، فابتسمت رغم أنى أتمزق بالداخل لما سمعت وقلت له: ومن أدراك فلابد أن الاعتقال سيأتى عن قريب إن لم يكن الليلة..
وسلمت عليه بحرارة وقلت لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. فقال: يومين وهترجع تانى متقلقش وانصرفت من مكتب إحسان عبدالقدوس وأنا يداهمنى شعور رهيب بأنه سيتم اعتقالى ولن تمر على الليلة إلا وأنا داخل أحد السجون أو المعتقلات، فهذا كان سلوكاً سائداً فى تلك الفترة وتجولت فى شوارع القاهرة دون الشعور بالوقت حتى وجدت أن قدمى قادتانى إلى شقتى دون أن أدرى ودخلت الشقة وأنا يداهمنى شعور غريب بأن هناك من يراقبنى ولهذا أيقنت بأننى سأتعرض للاعتقال فى هذه الليلة لا محالة،
فجلست فى شقتى أنتظر طوال الليل عملية القبض على مستعداً تماماً بعد أن قمت بتجهيز حقيبتى التى وضعت بها «مجموعة كتب وغيارين داخليين وبيجامتين ومكنة حلاقة ومجموعة أمواس وصابونة ومعجون أسنان وفرشاة وشبشب حمام» واعترف بأن هذه الليلة كانت أصعب ليلة مرت على فى عمرى كله وفى حوالى الساعة الثالثة ليلاً وجدت طرقاً شديداً على الباب، وعرفت أن ما توقعته يتحقق فتوجهت لأفتح باب الشقة لكى أواجه مصيرى وقدرى الذى لا مهرب ولا مفر منه، وشاهدت ثلاثة ضباط ومجموعة من العساكر الذين دخلوا الشقة مندفعين إلى الحجرات دون استئذان،
وقبل أن أفتح فمى أخرج الضابط من جيبه أمراً بالقبض على موقعاً من عبدالناصر شخصياً فحملت حقيبتى بعد أن فتشوها وركبت سيارة الترحيلات وتوجهت إلى السجن الحربى، وواجهت بداخله أشد أنواع التعذيب البدنى والنفسى وفجأة استيقظت من النوم لأجد نفسى داخل حجرة نومى، ويتضح لى أن كل ما شاهدت من «تعذيب وضرب بالسيط والنوم فى حجرة مليئة بالمياه فى ليالى الشتاء قارسة البرودة»
كانت جميعها أحلاماً وكوابيس هاجمتنى طوال فترة نومى، لأن عملية القبض على شغلت تفكيرى ساعات كثيرة قبل خلودى إلى النوم، وارتحت بعض الشىء لأنه لم يتم القبض على فى الليلة الأولى بعد فصلى من العمل ونفيى فى البيت ـ فهكذا كنت أسمى أيام توقفى عن الكتابة بأنها أيام النفى - ولكن لم يتركنى الشعور بأنى سأعتقل ولكنى خرجت من كابوس اعتقالى لأواجه كابوساً ومعاناة أخرى ومختلفة وهى مسألة الإنفاق والمصاريف، فشغلت تفكيرى كثيراً مسألة كيف سأعيش بعد أن فقدت مهنتى ككاتب صحفى فى «روزاليوسف» وهناك قرار بمنعى من الكتابة فى أى جريدة أخرى وليس لى أى مصدر دخل أو رزق آخر.
لكن العناية الإلهية لم تنسنى فأثناء تفكيرى ومحاولة تدبير الحاجات بما تبقى معى من راتب وجدت أحد أصحاب دور النشر يطلب منى إعادة طباعة بعض الكتب التى طرحت بالأسواق لشدة إقبال الجمهور وطلبه المستمر لها فوافقت فى الحال، وكان عائد هذه الكتب هو مصدر الدخل الوحيد لى طوال فترة النفى، ورغم أن مشكلة الإنفاق والمصاريف قد دبرت إلا أننى كنت أعانى المشاكل النفسية التى تمزقنى وتشتت أفكارى، فالكتابة تمثل كل حياتى وكيانى فأصبحت تطاردنى مشاهد من داخل «روزاليوسف» وأيام نزولى إلى حجرة الأرشيف واطلاعى عليه وأنا أقرأ وأتأمل إعلانات كانت تنشر قبل قيام الثورة وطرد الملك فأين سعد حسين المطرب الصاعد الآن؟!
وهل كان يعلم بما سيحدث من ثورة وإذاعات موجهة ترسم اتجاهات وأذواق البشر.. كيان كامل اختفى وذاب كما يذوب الملح فى الماء، أصبحت خيالات أننى سأختفى ولن أصبح حتى ذكرى ليتذكرنى الناس تطاردنى من غرفة نومى إلى البلكون إلى الصالون، وحتى وأنا بجوار الراديو أستمع إلى موسيقى وغناء عبدالوهاب لا تتركنى هذه الأفكار المجنونة والمحطمة، عشت ومررت بحالة نفسية سيئة جداً كنت أشعر فى معظم الأحيان بأننى أنتظر تنفيذ حكم بالإعدام أو قرار بالإفراج وكل هذا لأننى أعلنت عن رأيى فى الماركسية وهتلر والنازية فى مقالتين، وكان جزاء الرأى النفى فقد تحولت مصر فى تلك الفترة إلى مقبرة للمفكرين وأصبحت الكلمة لا تصل صحيحة للناس، وأبرهن على ذلك «بأن أكبر دليل على تزييف الكلمة ما قرأناه وسمعناه بالكذب عن انتصارات ساحقة فى حرب 67 من الإذاعة والصحف المصرية»، ولذلك بدأت أخرج كل ما بداخلى فى الكتابة..
والكتابة الخفية التى لا يراها أحد غيرى.. فبدأت أكتب مجموعة موضوعات غريبة وعجيبة عن أينشتاين وغيره من الفلاسفة وأخرجت كل حنقى على الاشتراكية والديكتاتورية، ولكنى كنت أشعر فى أحيان باليأس فكيف أقوم بكتابة رأيى حيال ما يحدث فى مصر ثم أقوم بإخفائه وتخبئته فبدأت بكتابة كتاب «الإسلام والماركسية» وحاولت أيضا أن أكسر هذا الشعور الرهيب بالوحدة، فاتجهت إلى القراءة بشكل شرس وتعمقت فى المسرح حتى قمت بكتابة ثلاث مسرحيات أخرجت فيها كل ما كان يدور بداخلى من مشاعر بالظلم، وتناولت بداخلها النظام الديكتاتورى الموجود وقتها، والذى قام بتعذيب وتهجير وتشريد وسجن وقتل المفكرين والكتاب لأنهم يريدون الإصلاح ويعبرون عن أفكارهم وآرائهم فى كل ما يحدث حولهم، وكل هذا أظهرته فى كتابتى لثلاث مسرحيات «الإنسان والظل، الزلزال، الإسكندر الأكبر» ـ وأخفيتها حتى مات عبدالناصر وقمت بنشرها فى عهد السادات وهذه المسرحيات حاولت بها مسرحة الواقع السياسى والاجتماعى الذى واجهته مصر وقتها، فقد كانت أفعال عبدالناصر جميعها شكلاً من أشكال الفوضى الخاطئة..
وطالت فترة حجبى ومنعى من الكتابة حتى أنها وصلت إلى عام كامل من العزلة فى منفاى، وفى إحدى الليالى الصافية الجميلة فوجئت بكامل الشناوى يقوم بزيارتى ويقول لى مقولته الشهيرة: أنت تلحد على سجادة الصلاة، ولهذا فقد قمت بزيارة هيكل وتحدثت معه عن الأزمة التى حدثت لك وهو يريد رؤيتك فى مكتبه بالأهرام. وفى اليوم التالى ذهبت إلى هيكل وقابلنى بقوله: إزيك يا مصطفى وعامل إيه.
قلت له: أنا مش كويس طول ما أنا بعيد عن الكتابة. فقال لى: ارجع اكتب من اليوم لو حبيت. فسررت بشدة ولكننى كنت على يقين بأن هيكل هو الوسيط الوحيد الذى يمكن أن يقبل عبدالناصر منه كلاماً أو وساطة فى موضوعى لمدى قربه منه وثقته فيه ولكننى لم ألجأ إليه منذ البداية.. وعندما سألناه لماذا لم تلجأ إليه رفض الخوض فى التفاصيل وانتقل إلى موضوع آخر.
قال مصطفى محمود: لأن القدر يلعب دوره دائما معى فبالترتيب الإلهى فقط.. حدث أثناء عام النفى والحجب عن ممارسة الكتابة أن قابلت زميل الدراسة فى كلية الطب وصديقى الذى كان حبيباً إلى قلبى الدكتور أنور المفتى، وكان يعمل طبيباً خاصاً لعبدالناصر وطلبت منه التحدث إلى عبدالناصر لكى أعود إلى الكتابة من جديد، ووجدته يقول لى:
يا مصطفى أنت تعرف مدى حبى الشديد لك وبسبب هذا الحب فكرت حينما علمت بمنعك من الكتابة أن أتحدث إلى عبدالناصر أثناء إشرافى الطبى اليومى عليه، لكننى تراجعت لأن هناك قصة منتشرة حوله وهى أنه يجازى من يطلبون منه طلبات خاصة، حيث تجرأ ذات مرة سائقه الخاص وطلب منه طلباً خاصاً فأصدر قراراً بفصله من العمل فى اليوم التالى مباشرة، ولهذا فقد انتابنى شعور الخوف لأنه سيترتب على ذلك إبعادى عن عملى ووظيفتى كطبيب خاص له مثلما أبعد سائقه الخاص،
كما أنه يمكن أن يظن أننى أؤمن بنفس أفكارك وبالتالى سيترتب على ذلك شعوره بأننى خطر على حياته، خاصة وأنا طبيبه الخاص فيلفق لى تهمة ترمينى وراء الشمس وأنا لى زوجة وأولاد كما تعرف، كما أننى بحكم قربى منه سمعت وعرفت وشاهدت كيف يختفى من الوجود من يعارضه بمجرد إشارة من إصبعه خاصة وإنه يكرهك ويقول عليك «الواد ده ملحد وخطر على المصريين»، فقلت له لهذه الدرجة كرهه لى وقسوته مع من يتعاملون معه، فقال الدكتور أنور المفتى:
عبدالناصر يتمتع بعصبية غير عادية ومريض بجنون العظمة ويمكن أن تقول عليه «مجنون بذاته».. والغريب أنه بعد أقل من ثلاث سنوات توفى الدكتور أنور المفتى فى ظروف غامضة وتعددت الشائعات حول وفاته.. لكن الثابت فى التحقيقات أن زوجته قالت إنه ليلة وفاته بعد عودته إلى المنزل «تناولنا العشاء، وبعد ذلك نظر فى المرآة بعض الوقت وقال لى أشعر بأنى لن أعيش أكثر من أربع ساعات» إذ أنه اكتشف أعراض تسمم تظهر عليه ومن بينها كان «بؤبؤ» عينيه يتحرك وهذا الحادث أثر على كثيراً.. وأثارنى أنا وغيرى من أصدقاء الدكتور أنور المفتى.. ولم نجد تفسيراً أبداً لهذا السؤال: من اليد الخفية وراء مقتل أنور المفتى.. ومن المستفيد من وفاته!
والعجيب أنه أثناء انشغالنا بهذا الحادث كثيراً فوجئنا بوفاة عبدالحكيم عامر بنفس الأسلوب دون تفسير أو إعلان عن حقيقة ما حدث له، وزاد الأمر بشكل كارثى بعد نشر التحقيقات مع صلاح نصر عقب القبض عليه، واعترف بأنه كانت دائماً بحوزته سموم من أنواع نادرة وكان يستعملها كلما وجد الحاجة لإسكات بوق عالى الصوت.
وانتهت هذه الحكايات بموت عبدالناصر نفسه.. هناك تساؤل يجب ألا يمر دون أن نقف أمامه وهو: كيف توفى جمال عبدالناصر؟!
قيل عن وفاته الأقاويل الكثيرة والمتعددة، وكان من بينها أنه مات مسموماً، ولكن الحقيقة أن عبدالناصر مات لأنه مريض بالسكر ولتقصير وإهمال الطبيب فى تشخيص حالته الصحية بالخطأ، فكان يمكن إنقاذه من الموت بحقنة جلوكوز فى الوريد فتنتهى أزمة وغيبوبة السكر التى تعرض لها، ولكن أخطأ الطبيب الذى يعالجه أو ربما تعمد الطبيب أن يخطئ وعرف تشخيص حالته بشكل صحيح ولكنه لم يسعفه فقد مات عبدالناصر نتيجة غيبوبة السكر التى هاجمته، حيث كان مريضاً «بالسكر البرونزى» وهو أحد أندر أنواع مرض السكر، ومن أسهل ما يمكن أن يموت مريض هذا النوع فى حالة إذا تعرض للإهمال الطبى، وهذا هو ما حدث.
مصطفي محمود
■ إن الاستسلام للمنطق والعقل وحده فيه استئصال لأجمل ما فى الإنسان.. روحه.. ووجدانه.. وضميره ولو لم يكن إبليس موجودا لأوجدناه
■ إننا لا نستطيع أن نعيش دون أن نسمع ذنوبنا
■ هناك شبح نلعنه كل يوم ونرجمه لأنه غرر بنا
■ نحن نساعد فى خلق الأباطرة والجبابرة
■ بل نحن الذين نخلقهم ونشكلهم بأيدينا
■ إن الشياطين من صنع أيدينا والإجرام قرين لكل منا
■ لأننا جميعا أبناء القاتل قابيل
■ لكل منا قرين ولكن يوجد من يسيطر على قرينه ويوجد من يسيطر عليه قرينه
■ إن السم لا يزرع ولا يصنع ولكنه يخرج من حقدنا وحنقنا لبعضنا البعض
■ ولا يحين الموت إلا بعد أن ينتهى الأجل
■ فالموت قرار من الله وحده
مصطفى محمود
مازال المفكر الكبير والفيلسوف مصطفى محمود يفتح حقيبة أسراره ويطلعنا على ما تحويه دفاتره ويخرج كل ما بداخلها من أسرار.. مازال قلبه ينبض.. مازال عقله واعيا يتذكر كل تفاصيل رحلته الطويلة التى قضاها باحثاً عن اليقين يحاول الوصول للحقيقة الغائبة عن الجميع، يقول مصطفى محمود: ليس من السهل أو المعقول أو الطبيعى على الطيور أن تكف عن التحليق فى الفضاء، أو على العصفور أن يسجن فى قفص حتى ولو كان من الذهب والأحجار الكريمة، أو على المفكر أن تحجب أفكاره وترصد الرقابة قلمه وتختار نوع الحبر الذى ينسج به كتاباته،
وبالتالى لم يكن من السهل أن تحجب عنى كل ألوان الحياة من الماء والهواء والضوء والحياة التى تتمثل فى الكتابة والتعبير عن الرأى، وإخراج كل ما يدور داخلى من صراع وأفكار تحاول إثبات حقيقة المسلمات ـ التى تكلمت عنها من قبل ـ ولكن هذه كانت طبيعة الظروف والأحوال فى عهد الديكتاتورية التى مرت بها مصر.. عهد تحرير المصريين لاستعبادهم،
هذا بكل بساطة وصفى ورؤيتى لعهد جمال عبدالناصر فمهما تقدم بى العمر وطعن السن فى الشيخوخة ووصلت إلى أواخر أيامى فلن أنسى ما كان يحدث فى عهده من فتح السجون والمعتقلات ومصادرة الفكر والرأى، وبالطبع عانيت فى تلك الفترة لأننى كنت أحد الكتاب البارزين خاصة بعد أزمة كتابى الأول «الله والإنسان» فكنت أتوقع أنه فى أى لحظة لابد أن يقع بينى وبين عبدالناصر الصدام الذى وقع مع الجميع من قبلى، وبالفعل فوجئت بأن إحسان عبدالقدوس يطلبنى فى مكتبه بـ«روزاليوسف» وتوجهت إليه مباشرة، وعندما دخلت إلى السكرتارية لكى تبلغه بأنى أنتظره فوجدتها تقول لى: ادخل الأستاذ مستنيك على نار منذ أكثر من ساعة ولغى كل مواعيده.
فانتابتنى أفكار بأن هناك شيئاً خطيراً حدث أو منتظراً أن يحدث ولكننى تجاهلت كل هذه الأفكار ودخلت عليه المكتب فوجدته من الوهلة الأولى يقول لى وهو يبتسم: أهلا يا مغلبنى وبسببه طاير النوم من عينى. وكأنه كان يهدأ من وطأة المسألة، وقلت له: خير يا إحسان فى قضايا تانى اترفعت عليا ـ فقد كنت خارجاً من قضية كتاب «الله والإنسان» لسة طازة.. فقال: يا مصطفى اجلس فى البيت.. فقلت له يعنى إيه.. قال صدرت أوامر بمنعك من الكتابة، فقلت من أصدر هذه الأوامر ولماذا أتوقف عن الكتابة؟..
قال يمكن أن يكون بسبب المقالتين اللتين قمت بكتابتهما ونشرهما مؤخرا.. ثم أن أمر الإيقاف من قيادات عليا جدا.. فقلت له مين يعنى.. الراجل الكبير.. هز رأسه بالإجابة «نعم» وقال: يا مصطفى احمد ربنا إن المسألة منع من الكتابة بس ومفيش اعتقال ولا سجن، فابتسمت رغم أنى أتمزق بالداخل لما سمعت وقلت له: ومن أدراك فلابد أن الاعتقال سيأتى عن قريب إن لم يكن الليلة..
وسلمت عليه بحرارة وقلت لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. فقال: يومين وهترجع تانى متقلقش وانصرفت من مكتب إحسان عبدالقدوس وأنا يداهمنى شعور رهيب بأنه سيتم اعتقالى ولن تمر على الليلة إلا وأنا داخل أحد السجون أو المعتقلات، فهذا كان سلوكاً سائداً فى تلك الفترة وتجولت فى شوارع القاهرة دون الشعور بالوقت حتى وجدت أن قدمى قادتانى إلى شقتى دون أن أدرى ودخلت الشقة وأنا يداهمنى شعور غريب بأن هناك من يراقبنى ولهذا أيقنت بأننى سأتعرض للاعتقال فى هذه الليلة لا محالة،
فجلست فى شقتى أنتظر طوال الليل عملية القبض على مستعداً تماماً بعد أن قمت بتجهيز حقيبتى التى وضعت بها «مجموعة كتب وغيارين داخليين وبيجامتين ومكنة حلاقة ومجموعة أمواس وصابونة ومعجون أسنان وفرشاة وشبشب حمام» واعترف بأن هذه الليلة كانت أصعب ليلة مرت على فى عمرى كله وفى حوالى الساعة الثالثة ليلاً وجدت طرقاً شديداً على الباب، وعرفت أن ما توقعته يتحقق فتوجهت لأفتح باب الشقة لكى أواجه مصيرى وقدرى الذى لا مهرب ولا مفر منه، وشاهدت ثلاثة ضباط ومجموعة من العساكر الذين دخلوا الشقة مندفعين إلى الحجرات دون استئذان،
وقبل أن أفتح فمى أخرج الضابط من جيبه أمراً بالقبض على موقعاً من عبدالناصر شخصياً فحملت حقيبتى بعد أن فتشوها وركبت سيارة الترحيلات وتوجهت إلى السجن الحربى، وواجهت بداخله أشد أنواع التعذيب البدنى والنفسى وفجأة استيقظت من النوم لأجد نفسى داخل حجرة نومى، ويتضح لى أن كل ما شاهدت من «تعذيب وضرب بالسيط والنوم فى حجرة مليئة بالمياه فى ليالى الشتاء قارسة البرودة»
كانت جميعها أحلاماً وكوابيس هاجمتنى طوال فترة نومى، لأن عملية القبض على شغلت تفكيرى ساعات كثيرة قبل خلودى إلى النوم، وارتحت بعض الشىء لأنه لم يتم القبض على فى الليلة الأولى بعد فصلى من العمل ونفيى فى البيت ـ فهكذا كنت أسمى أيام توقفى عن الكتابة بأنها أيام النفى - ولكن لم يتركنى الشعور بأنى سأعتقل ولكنى خرجت من كابوس اعتقالى لأواجه كابوساً ومعاناة أخرى ومختلفة وهى مسألة الإنفاق والمصاريف، فشغلت تفكيرى كثيراً مسألة كيف سأعيش بعد أن فقدت مهنتى ككاتب صحفى فى «روزاليوسف» وهناك قرار بمنعى من الكتابة فى أى جريدة أخرى وليس لى أى مصدر دخل أو رزق آخر.
لكن العناية الإلهية لم تنسنى فأثناء تفكيرى ومحاولة تدبير الحاجات بما تبقى معى من راتب وجدت أحد أصحاب دور النشر يطلب منى إعادة طباعة بعض الكتب التى طرحت بالأسواق لشدة إقبال الجمهور وطلبه المستمر لها فوافقت فى الحال، وكان عائد هذه الكتب هو مصدر الدخل الوحيد لى طوال فترة النفى، ورغم أن مشكلة الإنفاق والمصاريف قد دبرت إلا أننى كنت أعانى المشاكل النفسية التى تمزقنى وتشتت أفكارى، فالكتابة تمثل كل حياتى وكيانى فأصبحت تطاردنى مشاهد من داخل «روزاليوسف» وأيام نزولى إلى حجرة الأرشيف واطلاعى عليه وأنا أقرأ وأتأمل إعلانات كانت تنشر قبل قيام الثورة وطرد الملك فأين سعد حسين المطرب الصاعد الآن؟!
وهل كان يعلم بما سيحدث من ثورة وإذاعات موجهة ترسم اتجاهات وأذواق البشر.. كيان كامل اختفى وذاب كما يذوب الملح فى الماء، أصبحت خيالات أننى سأختفى ولن أصبح حتى ذكرى ليتذكرنى الناس تطاردنى من غرفة نومى إلى البلكون إلى الصالون، وحتى وأنا بجوار الراديو أستمع إلى موسيقى وغناء عبدالوهاب لا تتركنى هذه الأفكار المجنونة والمحطمة، عشت ومررت بحالة نفسية سيئة جداً كنت أشعر فى معظم الأحيان بأننى أنتظر تنفيذ حكم بالإعدام أو قرار بالإفراج وكل هذا لأننى أعلنت عن رأيى فى الماركسية وهتلر والنازية فى مقالتين، وكان جزاء الرأى النفى فقد تحولت مصر فى تلك الفترة إلى مقبرة للمفكرين وأصبحت الكلمة لا تصل صحيحة للناس، وأبرهن على ذلك «بأن أكبر دليل على تزييف الكلمة ما قرأناه وسمعناه بالكذب عن انتصارات ساحقة فى حرب 67 من الإذاعة والصحف المصرية»، ولذلك بدأت أخرج كل ما بداخلى فى الكتابة..
والكتابة الخفية التى لا يراها أحد غيرى.. فبدأت أكتب مجموعة موضوعات غريبة وعجيبة عن أينشتاين وغيره من الفلاسفة وأخرجت كل حنقى على الاشتراكية والديكتاتورية، ولكنى كنت أشعر فى أحيان باليأس فكيف أقوم بكتابة رأيى حيال ما يحدث فى مصر ثم أقوم بإخفائه وتخبئته فبدأت بكتابة كتاب «الإسلام والماركسية» وحاولت أيضا أن أكسر هذا الشعور الرهيب بالوحدة، فاتجهت إلى القراءة بشكل شرس وتعمقت فى المسرح حتى قمت بكتابة ثلاث مسرحيات أخرجت فيها كل ما كان يدور بداخلى من مشاعر بالظلم، وتناولت بداخلها النظام الديكتاتورى الموجود وقتها، والذى قام بتعذيب وتهجير وتشريد وسجن وقتل المفكرين والكتاب لأنهم يريدون الإصلاح ويعبرون عن أفكارهم وآرائهم فى كل ما يحدث حولهم، وكل هذا أظهرته فى كتابتى لثلاث مسرحيات «الإنسان والظل، الزلزال، الإسكندر الأكبر» ـ وأخفيتها حتى مات عبدالناصر وقمت بنشرها فى عهد السادات وهذه المسرحيات حاولت بها مسرحة الواقع السياسى والاجتماعى الذى واجهته مصر وقتها، فقد كانت أفعال عبدالناصر جميعها شكلاً من أشكال الفوضى الخاطئة..
وطالت فترة حجبى ومنعى من الكتابة حتى أنها وصلت إلى عام كامل من العزلة فى منفاى، وفى إحدى الليالى الصافية الجميلة فوجئت بكامل الشناوى يقوم بزيارتى ويقول لى مقولته الشهيرة: أنت تلحد على سجادة الصلاة، ولهذا فقد قمت بزيارة هيكل وتحدثت معه عن الأزمة التى حدثت لك وهو يريد رؤيتك فى مكتبه بالأهرام. وفى اليوم التالى ذهبت إلى هيكل وقابلنى بقوله: إزيك يا مصطفى وعامل إيه.
قلت له: أنا مش كويس طول ما أنا بعيد عن الكتابة. فقال لى: ارجع اكتب من اليوم لو حبيت. فسررت بشدة ولكننى كنت على يقين بأن هيكل هو الوسيط الوحيد الذى يمكن أن يقبل عبدالناصر منه كلاماً أو وساطة فى موضوعى لمدى قربه منه وثقته فيه ولكننى لم ألجأ إليه منذ البداية.. وعندما سألناه لماذا لم تلجأ إليه رفض الخوض فى التفاصيل وانتقل إلى موضوع آخر.
قال مصطفى محمود: لأن القدر يلعب دوره دائما معى فبالترتيب الإلهى فقط.. حدث أثناء عام النفى والحجب عن ممارسة الكتابة أن قابلت زميل الدراسة فى كلية الطب وصديقى الذى كان حبيباً إلى قلبى الدكتور أنور المفتى، وكان يعمل طبيباً خاصاً لعبدالناصر وطلبت منه التحدث إلى عبدالناصر لكى أعود إلى الكتابة من جديد، ووجدته يقول لى:
يا مصطفى أنت تعرف مدى حبى الشديد لك وبسبب هذا الحب فكرت حينما علمت بمنعك من الكتابة أن أتحدث إلى عبدالناصر أثناء إشرافى الطبى اليومى عليه، لكننى تراجعت لأن هناك قصة منتشرة حوله وهى أنه يجازى من يطلبون منه طلبات خاصة، حيث تجرأ ذات مرة سائقه الخاص وطلب منه طلباً خاصاً فأصدر قراراً بفصله من العمل فى اليوم التالى مباشرة، ولهذا فقد انتابنى شعور الخوف لأنه سيترتب على ذلك إبعادى عن عملى ووظيفتى كطبيب خاص له مثلما أبعد سائقه الخاص،
كما أنه يمكن أن يظن أننى أؤمن بنفس أفكارك وبالتالى سيترتب على ذلك شعوره بأننى خطر على حياته، خاصة وأنا طبيبه الخاص فيلفق لى تهمة ترمينى وراء الشمس وأنا لى زوجة وأولاد كما تعرف، كما أننى بحكم قربى منه سمعت وعرفت وشاهدت كيف يختفى من الوجود من يعارضه بمجرد إشارة من إصبعه خاصة وإنه يكرهك ويقول عليك «الواد ده ملحد وخطر على المصريين»، فقلت له لهذه الدرجة كرهه لى وقسوته مع من يتعاملون معه، فقال الدكتور أنور المفتى:
عبدالناصر يتمتع بعصبية غير عادية ومريض بجنون العظمة ويمكن أن تقول عليه «مجنون بذاته».. والغريب أنه بعد أقل من ثلاث سنوات توفى الدكتور أنور المفتى فى ظروف غامضة وتعددت الشائعات حول وفاته.. لكن الثابت فى التحقيقات أن زوجته قالت إنه ليلة وفاته بعد عودته إلى المنزل «تناولنا العشاء، وبعد ذلك نظر فى المرآة بعض الوقت وقال لى أشعر بأنى لن أعيش أكثر من أربع ساعات» إذ أنه اكتشف أعراض تسمم تظهر عليه ومن بينها كان «بؤبؤ» عينيه يتحرك وهذا الحادث أثر على كثيراً.. وأثارنى أنا وغيرى من أصدقاء الدكتور أنور المفتى.. ولم نجد تفسيراً أبداً لهذا السؤال: من اليد الخفية وراء مقتل أنور المفتى.. ومن المستفيد من وفاته!
والعجيب أنه أثناء انشغالنا بهذا الحادث كثيراً فوجئنا بوفاة عبدالحكيم عامر بنفس الأسلوب دون تفسير أو إعلان عن حقيقة ما حدث له، وزاد الأمر بشكل كارثى بعد نشر التحقيقات مع صلاح نصر عقب القبض عليه، واعترف بأنه كانت دائماً بحوزته سموم من أنواع نادرة وكان يستعملها كلما وجد الحاجة لإسكات بوق عالى الصوت.
وانتهت هذه الحكايات بموت عبدالناصر نفسه.. هناك تساؤل يجب ألا يمر دون أن نقف أمامه وهو: كيف توفى جمال عبدالناصر؟!
قيل عن وفاته الأقاويل الكثيرة والمتعددة، وكان من بينها أنه مات مسموماً، ولكن الحقيقة أن عبدالناصر مات لأنه مريض بالسكر ولتقصير وإهمال الطبيب فى تشخيص حالته الصحية بالخطأ، فكان يمكن إنقاذه من الموت بحقنة جلوكوز فى الوريد فتنتهى أزمة وغيبوبة السكر التى تعرض لها، ولكن أخطأ الطبيب الذى يعالجه أو ربما تعمد الطبيب أن يخطئ وعرف تشخيص حالته بشكل صحيح ولكنه لم يسعفه فقد مات عبدالناصر نتيجة غيبوبة السكر التى هاجمته، حيث كان مريضاً «بالسكر البرونزى» وهو أحد أندر أنواع مرض السكر، ومن أسهل ما يمكن أن يموت مريض هذا النوع فى حالة إذا تعرض للإهمال الطبى، وهذا هو ما حدث.
مواضيع مماثلة
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 12 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 13 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 14 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 16 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 17 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 13 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 14 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 16 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 17 )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى