حياة الدكتور مصطفي محمود ( 14 )
صفحة 1 من اصل 1
حياة الدكتور مصطفي محمود ( 14 )
الحلقة (١٤): أيامى مع السادات
■ ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذى يتعبه تحت الشمس.
■ كل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر لا يملأ.
■ كل الكلام يعجز لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن الكسل.
■ العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع، والاختلافات الفكرية والسياسية لا تنتهى، والسجون مهما مر الزمن فلن تمتلئ، وضحايا الظلم فى كل مكان، والفراعنة هم فى الأساس من صنع البشر.
■ ولكن الحقيقة أن كل تعب الإنسان إلى بطنه يذهب وهى لا تشبع، فالذهاب إلى مأتم خير من الذهاب إلى وليمة زفاف، لأنه خير تذكير للإنسان بالنهاية ليضعها أمام عينه ويغلق عليها قلبه «المتقلب».
مصطفى محمود
«لم تكن عدالة الحكام فى كل زمان ومكان دائما تؤدى إلى العدل الكامل.. أو الرفاهية الممتعة.. أو رفع الظلم عن المظاليم.. وكما كان ظلمهم فى أحيان كثيرة يرضى طبقة المنتفعين.. كان يغضب الفقراء والمحتاجين» هكذا تحدث مصطفى محمود.
بدأ المفكر الراحل فى الحديث عن الرئيس السادات حاول فى البداية أن يتحدث عن عصره وكأنه شاهد من الخارج. تحدث بلغة المراقبين الراصدين لأحوال الوطن من مكاتبهم.. ولكننا لم نرض بذلك بالطبع.
كيف تتحدث بحياد عن عصر كنت أنت أحد صناعه ورواده؟ كيف تتحدث عن منزلك مثل زائر عابر، الجميع يعرف أن عصر السادات كان عصر مصطفى محمود.. ويطلقونها مدوية أمامك ومن وراء ظهرك.. والجميع يعرف أيضا أن العلاقة الوطيدة بينك وبين السادات ممتدة قبل حتى أن يكون رئيسا.. فقال مررت بمراحل عمرية كثيرة داخل جسد هذا الوطن شاهدت خلالها ملوكاً ورؤساء رحب بهم الشعب ورؤساء قفزوا على المقعد وآخرين وصلوا بمجهودهم وآخرين بالصدفة البحتة..
أما أكثر ما أثر فى بعد ثورة «٢٣ يوليو» أنها طوت تماما عهد ما قبل الثورة وكأنه لم يكن، فمن منا يتذكر المطربين أو السياسيين؟ قبل الثورة كانوا بالآلاف وبعد الثورة لم يظهر على الساحة غير نسبة بسيطة منهم تعد على الأصابع وهم الذى أراد رجال الثورة إظهارهم فالثورة هى ذاتها مسحت بعض أسمائها، فعندما خرجت علينا بين يوم وليلة كان زعيمها القائد الطيب رقيق القلب محمد نجيب، ثم فوجئنا بتحديد إقامته ويحصل على اللقب بعد ذلك عبدالناصر ويطبق الاشتراكية وما حدث بعد ذلك نعرفه جميعا وهو العصر الذى انتهى بنكسة ٦٧..
وبعد رحيل عبدالناصر انتصب كيان كبير اسمه محمد أنور السادات ذلك الرجل صاحب التاريخ السياسى الكبير، الذى كان اسمه أبرز أسماء الضباط الأحرار، فقبل الثورة كان يعمل بالسياسة واتهم فى قضية اغتيال أمين باشا عثمان وخرج منها براءة بعد محاكمات دامت شهوراً طويلة كان يتابعها الشعب المصرى بشغف شديد،
ثم بعد ذلك فصل من الجيش بتهمة التخابر مع الألمان ضد الإنجليز «بريطانيا» التى كانت تحتل مصر آنذاك، وكان مثقفاً فى شتى المجالات وكتب أيام هروبه من السجن فى حلقات مسلسلة نشرت فى دار الهلال، فكان للرجل تاريخ مشرف وكان من الطبيعى بعد قيام الثورة أن يتم تحجيم دوره من قبل مجموعة الضباط الأحرار الآخرين خاصة أنهم غير معروفين بالمرة والحقيقة أن السادات كان صاحب عقلية عبقرية ولكن لم يظهر الكثير من مهاراته فى عهد عبدالناصر، بل ابتعد عن مجال الصراعات التى كانت تدور على الرئاسة لأنه كما قلت كان عبقرياً وكان يقرأ الواقع..
وعلم تماما أن الدخول فى هذه الصراعات سيجعله واحداً من الأرقام الموجودة حول ناصر والتى يحذفها واحداً وراء الآخر بجرة «استيكة» مخابراتية.. كان طموح السادات أكبر من أن يكون مجرد رقم حول ناصر.. كان يريد أن يكون مختلفاً أحاط نفسه بهالة الهدوء- رغم أنه غير هادئ بالمرة- ودخل فى إطار المثقفين وابتعد عن حياة العسكر ودوشتهم.. وهو ما لفت أنظار ناصر إليه بشده.. هل تفهمون ما أقصد؟..
«الجيم» هنا كان لعبة قط وفار، ولكنك لا ولن تصل أبدا لمن هو القط ومن منهما الآخر.. رئيس متحاوط بقيادات عسكرية حازمة تقود الجيش والاقتصاد والمخابرات والصحافة والإعلام والمحافظات وكلهم فيما بينهم يجمعهم هدف واحد، الاستحواذ على قدر من السلطة أكبر مما يحوذ.. ويضع كل منهم سيناريو لمنصبه الرفيع فى السنوات المقبلة لاسيما بعد عهد عبدالناصر..
وفى الوقت نفسه ناصر الذى يراقبهم واحدا واحدا بتركيز ويعرف تماما باستخباراته الخاصة المتشعبة خطط الجميع، كان يلاحظ السادات أبرزهم جميعا قبل الثورة وأكثرهم خبرة فى المجال الأمنى والعسكرى، يأخذ جانبا من هذه الصراعات ولا يسعى لأى منصب أكثر من منصبه وبالإضافة لكل ذلك يؤيد الثورة على طول الخط لا يؤيد جمال فقط، بل إنه فى معظم مقالاته فى الجمهورية التى رأس تحريرها يؤيد الثورة ومبادئها..
هل ضرب جمال كل رجال الثورة وقياداتها على مؤخرات أعناقهم عندما اختار السادات نائبا له؟ أم أن السادات هو الذى قام بتلك الضربة بتخطيطه الطويل الهادئ؟ ده السادات.. منوفى.. أنا بالفعل آمنت بهذا الرجل.. آمنت به.. واختلفت معه.. وأيدته ثم رفضت طلبات له.. وتقبلت ثورته بهدوء.. وأقنعته برأيى.. وحصلت منه على ما أريد. و.. و.. ده السادات.. كنت أحب السادات جدا وأتذكر أنه قبل رئاسته للجمهورية اتصل بى تليفونيا ليهنئنى على كتابى «القرآن» محاولة لفهم عصرى وقال لى كتاباتك الأخيرة كانت متميزة يا مصطفى وقال لى أريدك أن تزورنى فقلت له سأحضر إليك فى المكتب قال لا مكتب إيه يا مصطفى تعالالى فى الفيلا انت مش غريب وبالفعل زرته فى فيلته بالهرم وعرفت من يومها أن السادات ابن بلد وجدع ويتمتع بكرم الفلاحين..
وناقشنى فى الكتاب وداعبنى بسؤاله وانت شكاك عامل مشاكل بكتبك- يقصد كتاب الله والإنسان وما أثاره من جدل فى الخمسينيات- وبعد وصولك لليقين بقيت منبر كبير للإيمان وعامل مشاكل بردك.. هو انت إيه، وضحكنا كثيرا يومها.. وسألنى لماذا تهاجمك بنت الشاطئ بهذه القوة.. وكيف ستخرج من هذه الأزمة وأجبته: عائشة عبدالرحمن.. كاتبة قديرة لكنها تأخذ كل شىء بعاطفتها.. حضرتك تعرف تماما أن أنا وعائشة كنا مقربين تماما لكن أزمة كتابى الأخير (القرآن.. محاولة لفهم عصرى) الذى كان عبارة عن مجهود منى واجتهاد كما قال الرسول (ص) واللى المفروض آخد عليه إما ثواباً أو ثوابين ولا أقابل بهذه الحرب الضروس التى أعلنتها على بنت الشاطئ..
وتأكدت فى ذلك اليوم مما يقال عنه من أنه إنسان ظريف للغاية ويتمتع بروح الدعابة.. وانتهت الزيارة بإيمان منى وارتياح واقتناع منه. وواظبنا على المكالمات الهاتفية.. وعندما علمت بأنه تولى منصب نائب الرئيس اتصلت به وهنأته فقال لا ماينفعش فى التليفون يا درش لازم تزورنى انت وحشتنى.. وذهبت وأنا أحمل بعض التحفظات فى الكلام والهمسات والحركات فأنا اليوم فى حضرة السادات رئيس الجمهورية وليس المسؤول الكبير كما فى السابق فوجدته يقول لى..
مالك يا درش إنت قاعد متكتف كده ليه.. فك وخد راحتك فقلت له مايصحش يا ريس فضحك وكالعادة تكلمنا عما أكتبه وقضايا أثيرها بكتاباتى وداعبنى فى ذلك اليوم قائلا، وهو يضحك بشدة أنا شاهدت لك برنامجا، وحين سألتك المذيعة عن صوت سعاد حسنى قلت إن صوتها منعش إيه قصدك يا درش؟
واستغرقنا فى الضحكات، وقلت والله قصدى خير.. كانت هذه المقابلة مثل غيرها لكن زاد عليها أنه كلمنى لأول مرة عما يشغله هو عن مشاكله التى زادت بعد الموقع الجديد الذى احتله.. كلمنى عن حملة السخرية التى تعرض لها ونظرات العداء، التى قابله بها زملاء حركة يوليو بعد أن ترك كل مناصب الجيش ومناصب الدولة الأمنية دون طمع منه فى منصب أحد منهم..
وقال لى إن ما حصل عليه نتيجة عمل دائم وانشغال بقضايا تهم البلد وأبناءها لمدة أربعين عاما.. أحسست فى تلك الجلسة بأن السادات يستشف منى شيئا آخر.. هو يختبر مدى قرب أفكارنا.. عقلية السادات مع عقلية مصطفى محمود.. أحسست أن المقابلة هى بداية لشىء ما.. شىء جديد على، وأنا الذى أتعرض للحرب من السلطة منذ عشرين عاما أجد نفسى محط اهتمام غير عادى من أهم رجل فى الدولة.. هنا أريد أن أسجل تلك الملاحظة.. لأنها لحظة فارقة.. عندما تفتح أمام العالم أبواب السلطان.. كيف سيتصرف هل يطوى نفسه تحت جناحه؟
هل يثبت على موقفه؟ وكيف ستكون العلاقة بينهما؟ أى هل العلاقة ستكون بين حاكم ومحكوم أم بين صديقين من حقهما أن يتناقشا بحرية.. يختلفا.. ويتخاصما.. هذا الأمر شغلنى كثيراً، ويجب أن يشغل عقل كل مفكر أو عالم يقترب من السلطه أو تقترب هى منه.. أنا بالفعل معجب بالسادات.. مقتنع به تماما منذ البداية.. وزادت سعادتى عندما تولى منصب الرئاسة وتيقنت أن مصر مقبلة على عصر آخر.. أردت أن أبارك له، ولكنى وجدت تليفونه مشغولاً دائما، ولم أستطع أن أكلمه وانشغلت فى كتبى، وبعد قليل فوجئت بتليفون منه وطلب مقابلتى..
وحددنا موعداً وقبل الموعد بقليل فوجئت بسائق الرئيس عندى فى البيت، ويسألنى إن كنت مستعدا للذهاب.. وذهبت ألبى دعوته لى وبمجرد أن شاهدنى أخذنى فى أحضانه وعرفنى على من لا أعرفهم من الموجودين، وكان أبرز الحضور.. عثمان أحمد عثمان.. وأنيس منصور.. وممكن أن تقول إن الجميع فوجئ بحضورى يتقدمنى مساعدا الرئيس فى هذه المناسبة وفى هذه اللحظة وهذا اليوم بالذات واندهشت أنى حضرت فى نهاية الجلسة..
ولكنى أحسست بأنه يريد أن نجلس معا وحدنا وطبعا كان الأمر متبادلاً. وبمجرد انفرادى به طلب منى أن أستمع إلى كلامه جيدا.. وأخبرنى بأنه يريد أن يجعل الثقافة المصرية قريبة من النظام الأمريكى الذى يعجبه كثيرا.. لذلك طلب منى أن أكون معه فى إنشاء مجلس مستشارين مثل مجلس المستشارين الأمريكى، وقال لى أيضا أنت يا مصطفى إنسان مفكر وخلفيتك الثقافية والعلمية رائعة وأنا من أشد المعجبين بيك، وعايز الولاد فى المدارس يفكروا زيك..
حتى لو درسنالهم كتبك فى المدارس.. ضحكت أمامه وقلتله بلاش يا ريس.. عشان ماحدش يطلع ويقول إنك هاتبوظ العيال فى المدارس.. لم يضحك.. ووجدته يقول فى جدية: أنا محتاج لك يا مصطفى فقلت له على الفور طلباتك أوامر يا ريس فوجئت به يعرض على أكثر من وزارة (الثقافة أو الأوقاف) ولكن لم يكن من ضمنها منصب وزير الصحة أو وزير الإعلام كما شاع فى وقتها..
ويبدو أنه لاحظ التردد فى عينىّ فأكمل الحديث فى مواضيع عادية وعند الانصراف قال لى «هانتكلم قريب يا مصطفى بس جهز نفسك عشان شغلك الجديد».. ضحكت معه وغادرت وظللت طوال الأيام التالية مشغولا بكلامه وعرضه المغرى هذا.. أنا مصطفى محمود.. مش عارف عن نفسى غير راجل بيعرف يقرأ ويكتب.. أشغل نفسى فى المرصد وأفكر فى كواكب الفضاء.. ألعب بالميكروسكوب وأشغل نفسى بالبروتون والنواة.. أشرّح نباتاً أو حيواناً وأقارنهما بتركيب الإنسان.. أحضر جلسة صوفية..
أقرأ جزءى قرآن وتفسيرهما.. لكن أن أكون وزيرا.. أنا أعانى من عشرين سنة من السلطة ورخامتها وتسلطها.. فجأة كده أدخل اللعبة.. لو فى بلدنا دى وزير الثقافة بيكون مثقف فعلا.. ووزير الصحة بيكون عالم فى الطب ووزير الرياضة بيكون بطل وخبير رياضى لا يشق له غبار كنت أقول ماشى.. لأنى هاكون فى عملى وأنا مستمر فى ممارسة طقوسى واهتماماتى..
لكن الحقيقة معروفة «الجيم عندنا فى مصر مش نضيف».. المسؤول، أى مسؤول ما يصدق يمسك فى مكانه وينسى نفسه وشغله وأحلامه القديمة النضيفة.. ويرمى مبادئه على الباب وهو داخل ويركز فى شىء واحد إزاى يتبت فى الكرسى بتاعه.. وأخدت قرارى داخل نفسى أننى لا أصلح لهذا المنصب وهو أيضا لا يصلح لطبيعتى..
وكأن السادات حس بيه.. الله يرحمه كان فاكر إنى متعقد من الوزارات فاتصل بى بعد يومين، وقال يومها أريدك أن تكون رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال بالإضافة إلى كونك مستشارا لى وبالطبع وجدت نفسى فى حرج بالغ من كل هذه الثقة الزائدة فى، ومن كل هذه المناصب التى هبطت علىّ من السماء، وقلت له «أنا يا ريس بكل صراحة فشلت فى إدارة أصغر وحدة فى المجتمع، وهى زواجى فكيف تتصور أننى يمكن أن أنجح فى إدارة مؤسسة كاملة تحوى آلافاً من الموظفين، والأدهى أن أتحمل مسؤوليتها الاجتماعية وأتحاسب على إللى حققته وإللى فشلت فيه قدام ربنا..
وأنا بطبعى إنسان لا أحب الارتباط بمكان، وأبسط شىء إنى عمرى ما كان عندى مكتب ودائما أحب الحرية والانطلاق» وانفجر السادات ضاحكا وقال لى «هو فيه واحد بيعرف يدير مراته يا درش؟!» وقال لى «فكر فى هذا العرض» ولكننى أصررت على موقفى ورفضى لهذه المناصب مع تقديم الشكر له على هذه الثقة. قبل أن ينتهى لقاؤنا قلت له سينتهى الكاتب بداخلى مع أول يوم لى مديراً وسأكون مديراً فاشلاً ولن أجد وقتا لأكتب فيه وسوف تخسر أنت فىّ الأخ والصديق، وكان رفضى عن اقتناع ثابت فى كل الأحوال، وهو أننى لا أصلح إلا كاتبا، اقتنع الرئيس السادات بوجهة نظرى، واكتفيت بقبول العمل كمستشار شخصى له لكى أكون دائما بالقرب منه.
■ ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذى يتعبه تحت الشمس.
■ كل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر لا يملأ.
■ كل الكلام يعجز لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن الكسل.
■ العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع، والاختلافات الفكرية والسياسية لا تنتهى، والسجون مهما مر الزمن فلن تمتلئ، وضحايا الظلم فى كل مكان، والفراعنة هم فى الأساس من صنع البشر.
■ ولكن الحقيقة أن كل تعب الإنسان إلى بطنه يذهب وهى لا تشبع، فالذهاب إلى مأتم خير من الذهاب إلى وليمة زفاف، لأنه خير تذكير للإنسان بالنهاية ليضعها أمام عينه ويغلق عليها قلبه «المتقلب».
مصطفى محمود
«لم تكن عدالة الحكام فى كل زمان ومكان دائما تؤدى إلى العدل الكامل.. أو الرفاهية الممتعة.. أو رفع الظلم عن المظاليم.. وكما كان ظلمهم فى أحيان كثيرة يرضى طبقة المنتفعين.. كان يغضب الفقراء والمحتاجين» هكذا تحدث مصطفى محمود.
بدأ المفكر الراحل فى الحديث عن الرئيس السادات حاول فى البداية أن يتحدث عن عصره وكأنه شاهد من الخارج. تحدث بلغة المراقبين الراصدين لأحوال الوطن من مكاتبهم.. ولكننا لم نرض بذلك بالطبع.
كيف تتحدث بحياد عن عصر كنت أنت أحد صناعه ورواده؟ كيف تتحدث عن منزلك مثل زائر عابر، الجميع يعرف أن عصر السادات كان عصر مصطفى محمود.. ويطلقونها مدوية أمامك ومن وراء ظهرك.. والجميع يعرف أيضا أن العلاقة الوطيدة بينك وبين السادات ممتدة قبل حتى أن يكون رئيسا.. فقال مررت بمراحل عمرية كثيرة داخل جسد هذا الوطن شاهدت خلالها ملوكاً ورؤساء رحب بهم الشعب ورؤساء قفزوا على المقعد وآخرين وصلوا بمجهودهم وآخرين بالصدفة البحتة..
أما أكثر ما أثر فى بعد ثورة «٢٣ يوليو» أنها طوت تماما عهد ما قبل الثورة وكأنه لم يكن، فمن منا يتذكر المطربين أو السياسيين؟ قبل الثورة كانوا بالآلاف وبعد الثورة لم يظهر على الساحة غير نسبة بسيطة منهم تعد على الأصابع وهم الذى أراد رجال الثورة إظهارهم فالثورة هى ذاتها مسحت بعض أسمائها، فعندما خرجت علينا بين يوم وليلة كان زعيمها القائد الطيب رقيق القلب محمد نجيب، ثم فوجئنا بتحديد إقامته ويحصل على اللقب بعد ذلك عبدالناصر ويطبق الاشتراكية وما حدث بعد ذلك نعرفه جميعا وهو العصر الذى انتهى بنكسة ٦٧..
وبعد رحيل عبدالناصر انتصب كيان كبير اسمه محمد أنور السادات ذلك الرجل صاحب التاريخ السياسى الكبير، الذى كان اسمه أبرز أسماء الضباط الأحرار، فقبل الثورة كان يعمل بالسياسة واتهم فى قضية اغتيال أمين باشا عثمان وخرج منها براءة بعد محاكمات دامت شهوراً طويلة كان يتابعها الشعب المصرى بشغف شديد،
ثم بعد ذلك فصل من الجيش بتهمة التخابر مع الألمان ضد الإنجليز «بريطانيا» التى كانت تحتل مصر آنذاك، وكان مثقفاً فى شتى المجالات وكتب أيام هروبه من السجن فى حلقات مسلسلة نشرت فى دار الهلال، فكان للرجل تاريخ مشرف وكان من الطبيعى بعد قيام الثورة أن يتم تحجيم دوره من قبل مجموعة الضباط الأحرار الآخرين خاصة أنهم غير معروفين بالمرة والحقيقة أن السادات كان صاحب عقلية عبقرية ولكن لم يظهر الكثير من مهاراته فى عهد عبدالناصر، بل ابتعد عن مجال الصراعات التى كانت تدور على الرئاسة لأنه كما قلت كان عبقرياً وكان يقرأ الواقع..
وعلم تماما أن الدخول فى هذه الصراعات سيجعله واحداً من الأرقام الموجودة حول ناصر والتى يحذفها واحداً وراء الآخر بجرة «استيكة» مخابراتية.. كان طموح السادات أكبر من أن يكون مجرد رقم حول ناصر.. كان يريد أن يكون مختلفاً أحاط نفسه بهالة الهدوء- رغم أنه غير هادئ بالمرة- ودخل فى إطار المثقفين وابتعد عن حياة العسكر ودوشتهم.. وهو ما لفت أنظار ناصر إليه بشده.. هل تفهمون ما أقصد؟..
«الجيم» هنا كان لعبة قط وفار، ولكنك لا ولن تصل أبدا لمن هو القط ومن منهما الآخر.. رئيس متحاوط بقيادات عسكرية حازمة تقود الجيش والاقتصاد والمخابرات والصحافة والإعلام والمحافظات وكلهم فيما بينهم يجمعهم هدف واحد، الاستحواذ على قدر من السلطة أكبر مما يحوذ.. ويضع كل منهم سيناريو لمنصبه الرفيع فى السنوات المقبلة لاسيما بعد عهد عبدالناصر..
وفى الوقت نفسه ناصر الذى يراقبهم واحدا واحدا بتركيز ويعرف تماما باستخباراته الخاصة المتشعبة خطط الجميع، كان يلاحظ السادات أبرزهم جميعا قبل الثورة وأكثرهم خبرة فى المجال الأمنى والعسكرى، يأخذ جانبا من هذه الصراعات ولا يسعى لأى منصب أكثر من منصبه وبالإضافة لكل ذلك يؤيد الثورة على طول الخط لا يؤيد جمال فقط، بل إنه فى معظم مقالاته فى الجمهورية التى رأس تحريرها يؤيد الثورة ومبادئها..
هل ضرب جمال كل رجال الثورة وقياداتها على مؤخرات أعناقهم عندما اختار السادات نائبا له؟ أم أن السادات هو الذى قام بتلك الضربة بتخطيطه الطويل الهادئ؟ ده السادات.. منوفى.. أنا بالفعل آمنت بهذا الرجل.. آمنت به.. واختلفت معه.. وأيدته ثم رفضت طلبات له.. وتقبلت ثورته بهدوء.. وأقنعته برأيى.. وحصلت منه على ما أريد. و.. و.. ده السادات.. كنت أحب السادات جدا وأتذكر أنه قبل رئاسته للجمهورية اتصل بى تليفونيا ليهنئنى على كتابى «القرآن» محاولة لفهم عصرى وقال لى كتاباتك الأخيرة كانت متميزة يا مصطفى وقال لى أريدك أن تزورنى فقلت له سأحضر إليك فى المكتب قال لا مكتب إيه يا مصطفى تعالالى فى الفيلا انت مش غريب وبالفعل زرته فى فيلته بالهرم وعرفت من يومها أن السادات ابن بلد وجدع ويتمتع بكرم الفلاحين..
وناقشنى فى الكتاب وداعبنى بسؤاله وانت شكاك عامل مشاكل بكتبك- يقصد كتاب الله والإنسان وما أثاره من جدل فى الخمسينيات- وبعد وصولك لليقين بقيت منبر كبير للإيمان وعامل مشاكل بردك.. هو انت إيه، وضحكنا كثيرا يومها.. وسألنى لماذا تهاجمك بنت الشاطئ بهذه القوة.. وكيف ستخرج من هذه الأزمة وأجبته: عائشة عبدالرحمن.. كاتبة قديرة لكنها تأخذ كل شىء بعاطفتها.. حضرتك تعرف تماما أن أنا وعائشة كنا مقربين تماما لكن أزمة كتابى الأخير (القرآن.. محاولة لفهم عصرى) الذى كان عبارة عن مجهود منى واجتهاد كما قال الرسول (ص) واللى المفروض آخد عليه إما ثواباً أو ثوابين ولا أقابل بهذه الحرب الضروس التى أعلنتها على بنت الشاطئ..
وتأكدت فى ذلك اليوم مما يقال عنه من أنه إنسان ظريف للغاية ويتمتع بروح الدعابة.. وانتهت الزيارة بإيمان منى وارتياح واقتناع منه. وواظبنا على المكالمات الهاتفية.. وعندما علمت بأنه تولى منصب نائب الرئيس اتصلت به وهنأته فقال لا ماينفعش فى التليفون يا درش لازم تزورنى انت وحشتنى.. وذهبت وأنا أحمل بعض التحفظات فى الكلام والهمسات والحركات فأنا اليوم فى حضرة السادات رئيس الجمهورية وليس المسؤول الكبير كما فى السابق فوجدته يقول لى..
مالك يا درش إنت قاعد متكتف كده ليه.. فك وخد راحتك فقلت له مايصحش يا ريس فضحك وكالعادة تكلمنا عما أكتبه وقضايا أثيرها بكتاباتى وداعبنى فى ذلك اليوم قائلا، وهو يضحك بشدة أنا شاهدت لك برنامجا، وحين سألتك المذيعة عن صوت سعاد حسنى قلت إن صوتها منعش إيه قصدك يا درش؟
واستغرقنا فى الضحكات، وقلت والله قصدى خير.. كانت هذه المقابلة مثل غيرها لكن زاد عليها أنه كلمنى لأول مرة عما يشغله هو عن مشاكله التى زادت بعد الموقع الجديد الذى احتله.. كلمنى عن حملة السخرية التى تعرض لها ونظرات العداء، التى قابله بها زملاء حركة يوليو بعد أن ترك كل مناصب الجيش ومناصب الدولة الأمنية دون طمع منه فى منصب أحد منهم..
وقال لى إن ما حصل عليه نتيجة عمل دائم وانشغال بقضايا تهم البلد وأبناءها لمدة أربعين عاما.. أحسست فى تلك الجلسة بأن السادات يستشف منى شيئا آخر.. هو يختبر مدى قرب أفكارنا.. عقلية السادات مع عقلية مصطفى محمود.. أحسست أن المقابلة هى بداية لشىء ما.. شىء جديد على، وأنا الذى أتعرض للحرب من السلطة منذ عشرين عاما أجد نفسى محط اهتمام غير عادى من أهم رجل فى الدولة.. هنا أريد أن أسجل تلك الملاحظة.. لأنها لحظة فارقة.. عندما تفتح أمام العالم أبواب السلطان.. كيف سيتصرف هل يطوى نفسه تحت جناحه؟
هل يثبت على موقفه؟ وكيف ستكون العلاقة بينهما؟ أى هل العلاقة ستكون بين حاكم ومحكوم أم بين صديقين من حقهما أن يتناقشا بحرية.. يختلفا.. ويتخاصما.. هذا الأمر شغلنى كثيراً، ويجب أن يشغل عقل كل مفكر أو عالم يقترب من السلطه أو تقترب هى منه.. أنا بالفعل معجب بالسادات.. مقتنع به تماما منذ البداية.. وزادت سعادتى عندما تولى منصب الرئاسة وتيقنت أن مصر مقبلة على عصر آخر.. أردت أن أبارك له، ولكنى وجدت تليفونه مشغولاً دائما، ولم أستطع أن أكلمه وانشغلت فى كتبى، وبعد قليل فوجئت بتليفون منه وطلب مقابلتى..
وحددنا موعداً وقبل الموعد بقليل فوجئت بسائق الرئيس عندى فى البيت، ويسألنى إن كنت مستعدا للذهاب.. وذهبت ألبى دعوته لى وبمجرد أن شاهدنى أخذنى فى أحضانه وعرفنى على من لا أعرفهم من الموجودين، وكان أبرز الحضور.. عثمان أحمد عثمان.. وأنيس منصور.. وممكن أن تقول إن الجميع فوجئ بحضورى يتقدمنى مساعدا الرئيس فى هذه المناسبة وفى هذه اللحظة وهذا اليوم بالذات واندهشت أنى حضرت فى نهاية الجلسة..
ولكنى أحسست بأنه يريد أن نجلس معا وحدنا وطبعا كان الأمر متبادلاً. وبمجرد انفرادى به طلب منى أن أستمع إلى كلامه جيدا.. وأخبرنى بأنه يريد أن يجعل الثقافة المصرية قريبة من النظام الأمريكى الذى يعجبه كثيرا.. لذلك طلب منى أن أكون معه فى إنشاء مجلس مستشارين مثل مجلس المستشارين الأمريكى، وقال لى أيضا أنت يا مصطفى إنسان مفكر وخلفيتك الثقافية والعلمية رائعة وأنا من أشد المعجبين بيك، وعايز الولاد فى المدارس يفكروا زيك..
حتى لو درسنالهم كتبك فى المدارس.. ضحكت أمامه وقلتله بلاش يا ريس.. عشان ماحدش يطلع ويقول إنك هاتبوظ العيال فى المدارس.. لم يضحك.. ووجدته يقول فى جدية: أنا محتاج لك يا مصطفى فقلت له على الفور طلباتك أوامر يا ريس فوجئت به يعرض على أكثر من وزارة (الثقافة أو الأوقاف) ولكن لم يكن من ضمنها منصب وزير الصحة أو وزير الإعلام كما شاع فى وقتها..
ويبدو أنه لاحظ التردد فى عينىّ فأكمل الحديث فى مواضيع عادية وعند الانصراف قال لى «هانتكلم قريب يا مصطفى بس جهز نفسك عشان شغلك الجديد».. ضحكت معه وغادرت وظللت طوال الأيام التالية مشغولا بكلامه وعرضه المغرى هذا.. أنا مصطفى محمود.. مش عارف عن نفسى غير راجل بيعرف يقرأ ويكتب.. أشغل نفسى فى المرصد وأفكر فى كواكب الفضاء.. ألعب بالميكروسكوب وأشغل نفسى بالبروتون والنواة.. أشرّح نباتاً أو حيواناً وأقارنهما بتركيب الإنسان.. أحضر جلسة صوفية..
أقرأ جزءى قرآن وتفسيرهما.. لكن أن أكون وزيرا.. أنا أعانى من عشرين سنة من السلطة ورخامتها وتسلطها.. فجأة كده أدخل اللعبة.. لو فى بلدنا دى وزير الثقافة بيكون مثقف فعلا.. ووزير الصحة بيكون عالم فى الطب ووزير الرياضة بيكون بطل وخبير رياضى لا يشق له غبار كنت أقول ماشى.. لأنى هاكون فى عملى وأنا مستمر فى ممارسة طقوسى واهتماماتى..
لكن الحقيقة معروفة «الجيم عندنا فى مصر مش نضيف».. المسؤول، أى مسؤول ما يصدق يمسك فى مكانه وينسى نفسه وشغله وأحلامه القديمة النضيفة.. ويرمى مبادئه على الباب وهو داخل ويركز فى شىء واحد إزاى يتبت فى الكرسى بتاعه.. وأخدت قرارى داخل نفسى أننى لا أصلح لهذا المنصب وهو أيضا لا يصلح لطبيعتى..
وكأن السادات حس بيه.. الله يرحمه كان فاكر إنى متعقد من الوزارات فاتصل بى بعد يومين، وقال يومها أريدك أن تكون رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال بالإضافة إلى كونك مستشارا لى وبالطبع وجدت نفسى فى حرج بالغ من كل هذه الثقة الزائدة فى، ومن كل هذه المناصب التى هبطت علىّ من السماء، وقلت له «أنا يا ريس بكل صراحة فشلت فى إدارة أصغر وحدة فى المجتمع، وهى زواجى فكيف تتصور أننى يمكن أن أنجح فى إدارة مؤسسة كاملة تحوى آلافاً من الموظفين، والأدهى أن أتحمل مسؤوليتها الاجتماعية وأتحاسب على إللى حققته وإللى فشلت فيه قدام ربنا..
وأنا بطبعى إنسان لا أحب الارتباط بمكان، وأبسط شىء إنى عمرى ما كان عندى مكتب ودائما أحب الحرية والانطلاق» وانفجر السادات ضاحكا وقال لى «هو فيه واحد بيعرف يدير مراته يا درش؟!» وقال لى «فكر فى هذا العرض» ولكننى أصررت على موقفى ورفضى لهذه المناصب مع تقديم الشكر له على هذه الثقة. قبل أن ينتهى لقاؤنا قلت له سينتهى الكاتب بداخلى مع أول يوم لى مديراً وسأكون مديراً فاشلاً ولن أجد وقتا لأكتب فيه وسوف تخسر أنت فىّ الأخ والصديق، وكان رفضى عن اقتناع ثابت فى كل الأحوال، وهو أننى لا أصلح إلا كاتبا، اقتنع الرئيس السادات بوجهة نظرى، واكتفيت بقبول العمل كمستشار شخصى له لكى أكون دائما بالقرب منه.
مواضيع مماثلة
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 12 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 13 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 16 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 17 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 18 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 13 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 16 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 17 )
» حياة الدكتور مصطفي محمود ( 18 )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى