قراءة فى كتاب التحسين والتقبيح بين أهل السنة والمبتدعة
صفحة 1 من اصل 1
قراءة فى كتاب التحسين والتقبيح بين أهل السنة والمبتدعة
قراءة فى كتاب التحسين والتقبيح بين أهل السنة والمبتدعة
المؤلف تميم بن عبد العزيز القاضي ةفى التمهيد بين أن مسألة التحسين والتقبيح يعتبر أثرا للخلاف في مسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله فقال:
"تمهيد :
أولا : علاقة المسألة بمسألة الحكمة والتعليل :
البحث في مسألة التحسين والتقبيح يعتبر أثرا للخلاف في مسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله، هل يحكم عليها بالعقل أو لا؟ فمن أثبت الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى قال بالحسن والقبح العقلي، ومن نفي الحكمة والتعليل –كالأشاعرة - نفي الحسن والقبح العقليين كما سيأتي بيانه .
قال ابن القيم مبينا هذه العلاقة بين هذين الموضوعين : وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين، إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فلما قالت المعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين، نتج عن ذلك قولهم أن من يفعل لا لغرض يكون عابثا، والعبث قبيح، فثبت أن أفعاله يجب أن تكون لأغراض وحكم ولما قالت الأشاعرة إن العقل لا يحكم بحسن ولا قبح، بل ذلك مقصور على الشرع، والأفعال في أنفسها سواء قبل ورود الشرع، وليس الحسن والقبح صفتين ذاتيتين للأشياء، قالوا :إن أفعاله تعالى ليست معللة بالأغراض والغايات، ونفوا بناء على ذلك الحكمة على ما سبق بيانه ."
وبعد أن استعرض آراء القوم دخل فى تاريخ المسألة وهو بالقطع تاريخ كاذب كمعظم تواريخنا فقال :
"ثانيا :تاريخ المسألة .
- تاريخها في هذه الأمة :
أول من بحث هذه المسألة من أهل الكلام هو الجهم بن صفوان، حين وضع قاعدته المشهورةإيجاب العارف بالعقل قبل ورود الشرع
وقال : إن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها
وقد أخذ بهذا القول المعتزلة –كما سيأتي إن شاء الله تفصيل مذهبهم -وبنو عليه أصلهم، وأخذه عنهم الكرامية
- تاريخها قبل هذه الأمة .
القول بالتحسين والتقبيح العقليين قد جاء -قبل الإسلام - من بعض الديانات الهندية، وهو قول التناسخية، والبراهمة، والثنوية، وهم -كما يقال -الذين وضعوا البذور الأولى للقول بإيجاب المعارف عقلا
ثالثا :تحرير محل النزاع .
-اتفق الجميع على أن من الأشياء ما لا يدرك إلا بالشرع، كبعض تفاصيل الشرائع والعبادات .
- وأما بالنسبة لمعاني الحسن والقبح فتطلق على ثلاثة أشياء ببيانها يتضح محل النزاع :
المعنى الأول :أن يراد بالحسن والقبح : ما يوافق غرض الفاعل من الأفعال وما يخالفه، أو ما يطلق عليه : الملائمة والمنافرة للإنسان ...فهذا معلوم بالعقل بالاتفاق فإنه قد يعنى بالحسن والقبح كون الشيء ملائما للطبع أو منافرا له، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين . فما وافق غرض الفاعل يسمى حسنا ويدرك بالعقل، كحسن قتل العدو، وهو ما يسمونه مصلحة أو ملائمة طبع، وما خالف غرض الفاعل يسمى قبيحا، كالإيذاء، ويسمى مفسدة أو منافرة للطبع، قال شيخ الإسلام في التدمرية في كلامه على مسألة الحسن والقبح فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، أو سببا لما يبغضه ويؤذيه .
وقال كذلك: والعقلاء متفقون على كون بعض الأفعال ملائما للإنسان، وبعضها منافيا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل ...ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك
- والحسن والقبح بهذا المعنى اعتباري نسبي، وليس ذاتيا،فإن قتل زيد مثلا مصلحة لأعدائه ومفسدة لأوليائه .
-ا لمعنى الثاني : أن يراد بالحسن والقبح : كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، كقولنا :العلم حسن، والجهل قبيح، ولا نزاع هنا -أيضا -في كونهما عقليين .
ويرى شيخ الإسلام أن هذا المعنى راجع للمعنى الأول، لأنه عائد إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة والألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي
فلا نزاع في هذين المعنيين بين أهل الكلام أنهما عقليان يستقل العقل بإدراكهما
- المعنى الثالث :أن يراد بالحسن والقبح :كون الفعل يتعلق به المدح والثواب، و الذم والعقاب .
فما تعلق به المدح والثواب في الدنيا والآخرة كان حسنا، وما تعلق به الذم والعقاب في الدنيا كان قبيحا فهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف
وقال الرازي : وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا، وفي كون الفعل متعلق المدح عاجلا، والثواب آجلا، هل يثبت بالشرع أو بالعقل ... وفيما سيأتي بإذن الله نذكر أهم الأقوال في ذلك ."
والمسألة أهون من ذلك فالعقل لم يكن موجودا قبل الشرع وهو الوحى ولو افترضنا كونه موجود فإنه لا يقدر على التقبيح والتحسين لأن ذلك يتطلب أساس يحكم بناء عليه وهو الوحى
الوليد ينزل بعقل ولكنه لا يعمل ولذا نفى الله المعرفة عنها تماما فقال :
" والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا"
ومن ثم لا يمكن أن يحسن العقل أو يقبح إلا عبر أساس أخر استقاه من وحى الله
ولو سلمنا بتقبيح وتحسين العقل فلا حاجة لرسالات الرسل(ص) لأن كل واحد منا فيه عقل يقدر على التشريع الصحيح ولكنه هذا غير صحيح بدليل أن الناس اخترعوا كم هائل من الأديان المتناقضة وهم يحسبون أنهم مبنية على العقل ولكنها فى الحقيقة مبنية على أهواء النفوس
واستعرض فى الفصل الأول مذهب المعتزلة فقال:
"الفصل الأول : مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح
المبحث الأول :تقرير مذهبهم :
ذهبت المعتزلة إلى القول بالتحسين والتقبيح العقلي، ولعل مذهبهم يتضح من خلال النقاط التالية :
- ذهبوا إلى إثبات الحسن والقبح بالعقل وجعلوا حسن الأفعال وقبحها للعقل فقط .
- قالوا :إن حسن الأشياء وقبحها صفتان ذاتيتان في الأشياء، والفعل حسن أو قبيح، إما لذاته، وإما لصفة من صفاته اللازمة له، وإما لوجوه واعتبارات أخرى ولذا قالوا بإمكان إدراكها بالعقل.
-أما الشرع فجعلوه كاشف ومبين لتلك الصفات فقط .
-ونتيجة لذلك جعلوا استحقاق الثواب والعقاب على مجرد معرفة العقل حسن الأفعال وقبحها ولو لم تبعث الرسل .
وإليك ذكر طرف من أقوالهم الكاشفة لحقيقة مذهبهم في ذلك :
- قال ابن المرتضي : إنما يقبح الشيء لوقوعه على وجه من كونه ظلما أو كذبا أو مفسدة، إذ متى علمناه كذلك علمنا قبحه، وإن جهلنا ما جهلنا، ومتى لا فلا، وإن علمنا ما علمنا
- قال عبد الجبار الهمذاني المعتزلي في كتابه شرح الأصول الخمسة )قد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل .
- وقال في كتابه المغني في أبواب التوحيد )إن في الأفعال الحسنة ما يعلم من حاله أن فاعله يستحق المدح بفعله
- وقال : قد بينا بطلان قول المجبرة الذين يقولون إن بالعقل لا يعرف الفرق بين القبيح والحسن، وإن ذلك موقوف على الأمر والنهي بوجوه كثيرة، فليس لأحد أن يقول :إنما يحتاج إلى السمع ليفصل العاقل بين الواجب والقبيح
- وقال في نفس الكتاب في تعريف القبيح : إنه ما إذا وقع على وجه من حق العالم بوقوعه كذلك من جهته، المخلي بينه وبينه، أن يستحق الذم إذا لم يمنع منه مانع، وهذا مستمر في كل قبيح .... ثم يقول )وأما وصف القبيح بأنه معصية فمعناه :أن المعصي قد كرهها، ولذلك يقال في الشيء الواحد :إنه معصية لله، طاعة للشيطان، من حيث كرهه الله وأراده الشيطان، ولذلك يستعمل مضافا، ولكنه بالتعارف قد صار إطلاقه يفيد كونه معصية لله، فلذلك يفيد كونه قبيحا، لأن ما كرهه تعالى فلا بد من كونه قبيحا، ولو كره تعالى ما ليس بقبيح -تعالى الله عن ذلك -لوصف بذلك، لكن لما ثبت أنه لا يكره إلا القبيح، أفاد بالإطلاق ما ذكرناه
ثم يقول في تعريف الحسن : اعلم أنه لما علم باضطرار أن في الأفعال على وجه لا يستحق فاعله –إذا علمه -عليه الذم على وجه وصف بأنه حسن ...والمباح كله حسن، لا صفة له زائدة على حسنه ... وكل ما وصفنا به الحسن يستعمل في أفعاله تعالى، وإن كانت لا توصف أفعاله بأنها مباحة ويقول كذلك : ولا يجوز أن يكون الموجب لقبحه أحوال الفاعل منا، نحو كون الواحد منا محدثا مربوبا، مملوكا، مقهورا مغلوبا، ولا يجوز أن يكون ماله يقبح القبيح منا النهي، ولا أنا نتجاوز به ما حد به ورسم لنا، ولا يجوز أن يكون ما له حسن لحسن الأمر، وأنا لم نتجاوز ما حد به ورسم لنا، ولا يجوز أن يكون الموجب لحسن أفعاله جل وعز أنه رب، مالك ناه آمر ناصب للدليل، متفضل، ...ونحن نبين أن ما أوجب قبح القبيح متى حصل يجب كونه قبيحا، وكذلك ما أوجب حسن الحسن، ووجوب الواجب ...وهذه القضية لا تختلف باختلاف الفاعلين، وإن حكم أفعال القديم في ذلك حكم أفعالنا
ويلاحظ في كلامه الأخير تشبيه أفعال الله بأفعال المخلوقين، وتسويته بينها فيما يقبح ويحسن، وإيجابه على الله ما رأوه حسنا،تعالى الله وتقدس عن قوله .
وقال كذلك مقررا أن الشرع مجرد كاشف عن أشياء معلومة مسبقا بالعقل وأن العقل هو الذي يوجبها وليس الشرع، قال واعلم أن النهي الوارد عن الله عز وجل يكشف عن قبح القبيح، لا أنه يوجب قبحه، وكذلك الأمر يكشف عن حسنه، لا أنه يوجب حسنه وقال : إنا لو علمنا بالعقل أن الصلاة مصلحة لنا لزمت كلزومها إذا عرفنا ذلك من حالها شرعا، لأنا إذا علمنا بالعقل ما نعلمه بدليل السمع بعينه فيجب كون الفعل لازما
وقال أبو هذيل العلاف : يجب على المكلف أن يعرف الله بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقاب أبدا، ويعلم حسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور .
وقال الشهرستاني عن المعتزلة وقال أهل العدل -المعتزلة - المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح .
وجمهور الماتريدية قد قالوا كما قالت المعتزلة، إلا أنهم خالفوهم في إيجابهم على الله تعالى فعل الصلاح والأصلح، لعباده، ووجوب الرزق والثواب على الطاعة، وفي غيرها من المسائل .
تنبيهان حول مذهب المعتزلة :
- مما ينبه له أن المعتزلة يرون -كغيرهم -أن بعض الأشياء إنما يعلم حسنها أو قبحها بالشرع، ولا يدرك العقل حسنها ولا قبحها، ضرورة ولا نظرا، وإن كان في الجملة يعلم حسن كل ما أمر به الشرع، ويدرك الحسن إجمالا، ويعلم قبح الأشياء التي نهى عنها الشرع، ويدرك القبح إجمالا، ومن تلك الأشياء :
تفاصيل العبادات التي لا يدرك العقل حكمتها، وذلك كحسن كون صلاة المغرب ثلاث ركعات، والفجر ركعتين، وقبح تحري الصلاة وقت النهي، وحسن صيام آخر يوم من رمضان، وقبح صيام أول يوم من شوال، ونحو ذلك مما لا يدركه العقل ابتداء، ومن ذلك :إلزام العاقلة الدية، يقول القاضي عبد الجبار : كما ورد الشرع في إلزام العاقلة الدية، ولم يقع منها إتلاف، وهذا مما لا مدخل له في التكاليف العقلية، وإن كانت مجوزة لورود السمع به فهم يرون أن بعض تفاصيل الحسن والقبح لا تدرك بالعقل، وإنما بينها الشرع، ولذلك أوجبوا على الله بعثة الرسل .
يقول القاضي عبد الجبار مقررا هذا المعنى : لما لم يمكنا أن نعلم عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة، بعث الله إلينا الرسل ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا، وتفصيل ما قد تقرر فيها
- وقع خلاف بين المعتزلة في مسألة قبح الأفعال وحسنها، هل هو لذاته أم لصفة من صفاته اللازمة له :
فمدرسة البصرة، وعلى رأسهم (أبو هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار :يرون أن الفعل الحسن والقبيح إنما كان ذلك لوجوه واعتبارات وأوصاف إضافية وقع الفعل عليها .
ما مدرسة بغداد :فترى أن الحسن والقبح إنما هو لذات الفعل .
وقال بعضهم : أن الحسن والقبح إنما هو لصفة حقيقية توجب ذلك "
يكفى فى رد قول المعتزلة وكل من قال بأن العقل حكم فى التحسين والتقبيح أنهم اختلفوا فى الكثير من المسائل فبعضهم اعتبرها حسنة وبعضهم اعتبرها قبيحة
كما أن القول بأن الصدق حسن والكذب قبيح والفجور قبيح يعارض أن الله أباح بعض الكذب فقال :
"ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"
وأباح بعض الفجور وهو السوء من القول لمن ظلم فقال :
"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"
وناقش القاضى أقوال المعتزلة فقال :
"المبحث الثاني : مناقشة قول المعتزلة في التحسين والتقبيح .
مما سبق من تقرير مذهب المعتزلة، نجد أنهم أصابوا من جهة وأخطأوا من من جهة أخرى :
صابوا :بقولهم إن لتلك الأفعال حسنا وقبحا ذاتيا يمكن إدراكه بالعقل .
وأخطأوا :أولا : في إيجابهم على الله تعالى أشياء بمحض عقولهم بل أوجبوا على الله أشياء مخالفة للصحيح الصريح من نصوص الكتاب والسنة، ورود الشرع .
وثانيا : في أنهم رتبوا التكليف والعقاب والثواب على ذلك، حتى لو كان قبل
فيجاب عليهم :
أن إيجابهم العقلي على الله باطل، لأنه يلزم أن يكون هناك موجب فوق الله أوجب علي شيئا، ولا موجب عليه سبحانه، كما يلزم عيه ألا يكون سبحانه فاعلا مختارا، وهو باطل
وقولهم هذا فيه تشبيه لله بخلقه، فهم يوجبون على الله ما يوجبونه على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمونه على العبد، وهذا أمر باطل، فالله تعالى كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، فكذلك ليس كمثله شيء في أفعاله، وكيف يقاس تعالى بخلقه ونحن نرى كثيرا من الأفعال تقبح من العبد وهي حسنة منه تعالى لحكم يعلمها سبحانه، كإيلام الأطفال والحيوان
أما ما أوجبه الله تعالى على نفسه فهو حق لا مرية فيه، فالله تعالى يجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، فهو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأحق على نفسه نصر المؤمنين، وثواب المطيعين، وحرم على نفسه الظلم .
قال تعالى:"كتب ربكم على نفسه الرحمه"
وقال : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين"
وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا
وهذا الإيجاب منه سبحانه إنما هو تفضل ورحمه، فلا أحد يوجب عليه سبحانه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه ،وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا ،ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال : إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح، ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك
وأما الجواب على خطأهم الثاني في أنهم رتبوا الإيجاب والثواب والتحريم والعقاب على التحسين والتقبيح العقلي ولو لم يرد به الشرع، فيقال : إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، لكن لا يترتب عليها الثواب والعقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل العقاب لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله تعالى لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالكذب والسرقة والزنا كلها قبيحة في ذاتها، لكن العقاب عليها مشروط بالشرع .
فترتيب العقاب على فعل القبيح أو ترك الواجب مشروط بالسمع، وانتفاء العقاب عند انتفاء السمع من انتفاء المشروط لانتفاء شرطه، لا من انتفاء المسبب لانتفاء سببه، فإن سببه قائم ومقتضيه موجود، إلا أنه لم يتم لتوقفه على شرطه، وعلى هذا فكونه متعلقا للثواب والعقاب والمدح والذم عقلي، وإن كان وقوع العذاب موقوف على شرط وهو ورود السمع
ويلزم على قول المعتزلة أن الحجة تقوم بدون الرسل، وهذا باطل .
وقد دل القران على عدم التلازم بين التحسين العقلي والثواب، ولا بين التقبيح العقلي والعقاب، وأن الله تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن أو قبيح، قال تعالى :
"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"
فدلت الآية على أن العذاب لا يكون إلا ببعثة الرسل، وهو دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع .
"تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير"
فدلت الآية –كسابقتها -على أنه لا يثبت العقاب إلا بالشرع، فالخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم العقل، بل سألوهم عن مخالفتهم للنذير "
وتحدث القاضى فى الفصل الثانى عن مذهب ألأشاعرة فقال :
"الفصل الثاني : مذهب الأشاعرة في التحسين والتقبيح .
المبحث الأول :تقرير مذهبهم
ذهب الأشاعرة إلى القول بالتحسين والتقبيح الشرعيين لا العقليين :
فقالوا : إنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع وقالوا :إن الحسن والقبح الذي يتعلق به المدح والثواب، و الذم والعقاب، إنما يدرك بالشرع فحسب، وليست الأشياء في ذاتها حسنة ولا قبيحة بل توصف بذلك باعتبارات غير حقيقية .
فهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح في الأشياء اعتباري ونسبي، أي :أنه ليس صفة لازمة وذاتية في الشيء، وإنما يعرف حسن الأشياء وقبحها باعتبارات إضافية .
قال الآمدي في سياق تقريره لمذهب الأشاعرة : إن الحسن والقبح ليس وصفا ذاتيا للحسن والقبيح، ولا أن ذلك مما يدرك بضرورة العقل ونظره، بل إطلاق لفظ الحسن والقبح عندهم باعتبارات غير حقيقية، بل إضافية، يمكن تغيرها وتبدلها بالنظر إلى الأشخاص والأزمان والأحوال
ويقول الجويني : العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع، وموجب السمع، وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له، وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له في جملة أحكام صفات النفس، فإذا ثبت أن الحسن والقبح عند أهل الحق لا يرجعان إلى جنس وصفة نفس، فالمعنى بالحسن :ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح :ما ورد الشرع بذم فاعله
يقول الإيجي : ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه، لم يكن ممتنعا، وانقلب الأمر فعلى هذا قد يأمر الله بالشرك والكفر والقتل والزنا فتكون حسنة، وقد ينهى عن التوحيد والصدق والإحسان فتكون قبيحة .
ومما يدل على فساد قولهم أنهم قد أجازوا على الله فعل أشياء يتنزه عنها الرب تعالى، ولا يصح أن تنسب إليه، كتعذيب عباده المخلصين، وتنعيم عدائه الكافرين ."
وقول الأشاعرة أفضل من قول المعتزلة وقد ناقشه القاضى فقال:
"المبحث الثاني :مناقشة قول الأشاعرة في التحسين والتقبيح .
ما ذهب إليه الأشاعرة من نفي حسن الأفعال وقبحها وتعطيل العقل عن معرفة ذلك، قد خالفوا به صحيح المنقول وصريح المعقول :
ا - فمخالفتهم لصحيح المنقول :ففي القران آيات كثيرة تدل على أن الحسن والقبح ثابت للأشياء في ذاتها
قال تعالى:"يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث"
ووجه الدلالة :الآية صريحة في أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها، فالمعروف الذي يأمر به الله ما تعرفه وتقر به العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والمنكر الذي نهاهم عنه هو ما تنكره العقول والفطر السليمة، وتقر بقبحه، ولو لم يمن للأشياء حسن وقبح لذاتها، وإنما كان ذلك من قبل الشارع وأن ما أمر به الحسن وما نهى عنه هو القبيح لكان معنى الآية : يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن رب العالمين .
وقال تعالى أيضا : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فدلت الآية على أن الحلال كان طيبا قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه , فلو كان الحلال والخبيث إنما عرفا بالتحليل والتحريم لكان معنى الآية يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم وهذا لا يليق بنظم كلام الله تعالى .
نعم :الطيب إذا أحل من الشارع فقد اكتسب طيبا آخر إلى طيبه، فصار طيبا من الوجهين، وكذلك القبيح إذا نهى الشارع عنه اكتسب قبحا إلى قبحه، فصار قبيحا من الوجهين معا .
وقال تعالى:"ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا" فدلت الآية على أن الزنى إنما تعلق به النهي لكونه قبيحا وفاحشة، وهذا الوصف ثابت له قبل النهي عنه، ولو لم يكن قبيحا وفاحشة في نفسه لكان معنى الآية : ولا تقربوا الزنى فإنه منهي عنه، وهذا من تعليل الشيء بنفسه وهو باطل .
ويلاحظ أن هذه الأدلة تدخل في الأدلة التي سبقت في ثبات الحكمة والتعليل في أفعاله سبحانه، فنفي الأشاعرة للحكمة والتعليل نتج عنه قولهم بنفي الحسن والقبح العقلي .
قال تعالى : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون فأخبر سبحانه أن الحق لو اتبع أهواء العباد فجاء شرع الله ودينه بأهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ومعلوم أن عند النفاة يجوز أن يرد شرع الله ودينه بأهواء العباد، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين ما ورد به وبين ما تقتضيه أهواؤهم إلا مجرد الأمر، وإنه لو ورد بأهوائهم جاز وكان تعبدا ودينا، وهذه مخالفة صريحة للقرآن، وإنه من المحال أن يتبع الحق أهوائهم ،وأن أهواءهم مشتملة على قبح عظيم لو ورد الشرع به لفسد العالم أعلاه وأسفله وما بين ذلك، ومعلوم أن هذا الفساد إنما يكون لقبح خلاف ما شرعه الله وأمر به ومنافاته لصلاح العالم علويه وسفليه، وإن خراب العالم وفساده لازم لحصوله ولشرعه، وأن كمال حكمة الله وكمال علمه ورحمته وربو بيته يأبى ذلك ويمنع منه، ومن يقول : الجميع في نفس الأمر سواء يجوز ورود التعبد بكل شيء، سواء كان من مقتضى أهوائهم أو خلافها .
- وأما مخالفتهم لصريح المعقول فيما ذهبوا إليه من نفي الحسن والقبح الذاتي للأفعال، وتعطيل العقل عن معرفة ذلك ففيه جمع بين الأمور المختلفة الممتنعة عند ذوي العقول الصريحة والفطر المستقيمة، فإذا كان العقل ليس له مدخل في معرفة حسن الأفعال وقبحها، فإن ذلك يستلزم أن تكون الأفعال الحسنة والقبيحة في حقه متساوية كالصدق والكذب والعدل والظلم والكرم والبخل والبر والفجور، وحكم الضدين بهذه العبارة يكون باطلا لا يقول به من له أدنى مسكة من علم وإيمان وعقل
قال تعالى:"أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار"
وقال جل من قائل:"أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون"
قال ابن القيم : فدل على أن هذا حكم سيء قبيح ينزه الله عنه ولم ينكره سبحانه من جهة أنه أخبر بأنه لا يكون، وإنما أنكره من جهة قبحه في نفسه، وإنه حكم سيء يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله ووقوع أفعاله كلها على السداد والصواب والحكمة، فلا يليق به أن يجعل البر كالفاجر ولا المحسن كالمسيء ولا المؤمن كالمفسد في الأرض، فدل على أن هذا قبيح في نفسه تعالى الله عن فعله
ومن قال :إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح لذاتها فهو بمنزلة قوله : ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين، والتبريد، والإشباع ، والإرواء ، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار .
وكذلك يقال :إن حسن الصدق وقبح الكذب أمر يدركه العقلاء، وهو مركوز في الفطر، والقول بأن الكذب قد يحسن أحيانا كما لو رتب عليه عصمة مسلم من القتل ظلما غير مسلم، فتخلف القبح عن الكذب لفوات شرط، أو لقيام مانع، يقتضي مصلحة راجحة على الصدق، لا تخرجه عن كونه قبيحا لذاته، ومن ذلك أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير للمفسدة في تناولها وهي ناشئة من ذوات هذه المحرمات، وتخلف التحريم عنها عند الضرورة لا يوجب أن تكون ذاتها غير مقتضية للمفسدة التي حرمت لأجلها، فهذا الكذب متضمن عصمة المسلم ."
القاضى هنا يرمى القوم بتعطيل العقل عن معرفة الصحيح من القبيح وهو كلام مخالف لكتاب الله لأن العقل كما سبق القول يبنى معارفه الصحيحة على الشرع وهو الوحى ومن ثم لا دور للعقل سوى التسليم بوحى الله
وحدثنا عن مذهب السنة فى المسألة فقال :
"الفصل الثالث : مذهب أهل السنة والجماعة في التحسين والتقبيح
وإنما أخرت ذكر مذهب أهل السنة والجماعة لكي تنجلي وسطيته بين طرفي الضلال، ولكونه قد جمع ما في ذينك المذهبين من حق واطرح ما فيهما من باطل، وأيضا لكي يتضح أن أهل السنة والجماعة هم أسعد المذاهب بالأدلة التي نظر كل فريق من الفريقين الآخرين إلى طرف منها وأهملوا طرفا، وحكموا عقولهم الفاسدة على الشرع حينا، واطرحوا العقل وأتوا بما يسخر منه البشر في أحيان أخر .
فوافق أهل السنة المعتزلة في قولهم : إن للأفعال حسنا وقبحا ذاتيين يمكن إدراكه بالعقل،
وخالفوهم حين قالوا بترتب التكليف والعقاب على ذلك الحكم العقلي،وكذلك خالفوهم حين أوجبوا على الله ما حسنته عقولهم وحرموا عليه ما قبحته عقولهم .
وخالف أهل السنة الأشاعرة في زعمهم ن تلك الأفعال لم تثبت لها صفة الحسن والقبح إلا بخطاب الشرع، وأنها في ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة،ووافقوهم في قولهم بأن التكليف والعقاب موقوف على خطاب الشرع، وفي إثباتهم للحسن والقبح الشرعيين .
فمذهب أهل السنة والجماعة يمكننا أن نجمله بالنقاط التالية :
إثبات حسن بعض الأفعال وقبحها بالعقل والشرع، ولا يلزم أن يدركها جميعا، لأن منها ما قد يخفي على بعض العقول،والشرع زاد حسن الأفعال الحسنة بالعقل حسنا، وزاد القبيحة قبحا
الثواب على فعل الأفعال الحسنة، والعقاب على فعل الأفعال القبيحة إنما هو من قبل الشارع، فلا يجب على المكلف شيء قبل ورود الشرع .
قال ابن القيم : وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة، وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما، فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين، فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي، وأحسنوا في رد ذلك عليهم، واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة، وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها، وأحسنوا في رد هذا عليهم، فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب، وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله، ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له
وقال كذلك : والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل أنه لا تلازم بينهما أي بين الحسن والقبح الذاتي المدرك بالعقل، وترتب الثواب والعقاب عليهما وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة كما أنها نافعة وضاره، والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات ،ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والأوثان والكذب والزنا والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها والعقاب عليها مشروط بالشرع
وبين شيخ الإسلام أنواع الحسن والقبح في الأفعال فقال :
قد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع :
أحدها : أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة و لو لم يرد الشرع بذلك
كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن و قبيح و قد يعلم بالعقل و الشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، و هذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة و لو لم يبعث إليهم رسولا، و هذا خلاف النص ..
النوع الثاني :أن الشارع إذا أمر بشىء صار حسنا و إذا نهى عن شيء صار قبيحا و إكتسب الفعل صفة الحسن و القبح بخطاب الشارع
والنوع الثالث : أن يأمر الشارع بشىء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه و لا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح إبنه، فلما أسلما و تله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح ...فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به .
وهذا النوع و الذي قبله لم يفهمه المعتزلة و زعمت أن الحسن و القبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع
والأشعرية إدعوا أن جميع الشريعة من قسم الإمتحان، و أن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع و لا بالشرع
و أما الحكماء و الجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة و هو الصواب
فتبين بهذا أن المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به تارة ومن الأمر تارة ومنهما تارة ومن العزم المجرد تارة
أما أدلة أهل السنة على مذهبهم فقد سبق ذكرها ضمن الرد على المعتزلة والأشاعرة، فلتراجع هناك ."
وقطعا ما ذكره الرجل عن اتفاق العقل والشرع يخالف أن المسلم لا يكون مسلما حتى يسلم بما قضى الله ورسوله(ص) بقوله:
"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا"
فلو كان للعقل أى دور فى التحسين والتقبيح لأصبح شريكا لله تعالى عن ذلك ولكن جعل الله كل شىء نابع من شرعه
المؤلف تميم بن عبد العزيز القاضي ةفى التمهيد بين أن مسألة التحسين والتقبيح يعتبر أثرا للخلاف في مسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله فقال:
"تمهيد :
أولا : علاقة المسألة بمسألة الحكمة والتعليل :
البحث في مسألة التحسين والتقبيح يعتبر أثرا للخلاف في مسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله، هل يحكم عليها بالعقل أو لا؟ فمن أثبت الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى قال بالحسن والقبح العقلي، ومن نفي الحكمة والتعليل –كالأشاعرة - نفي الحسن والقبح العقليين كما سيأتي بيانه .
قال ابن القيم مبينا هذه العلاقة بين هذين الموضوعين : وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين، إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فلما قالت المعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين، نتج عن ذلك قولهم أن من يفعل لا لغرض يكون عابثا، والعبث قبيح، فثبت أن أفعاله يجب أن تكون لأغراض وحكم ولما قالت الأشاعرة إن العقل لا يحكم بحسن ولا قبح، بل ذلك مقصور على الشرع، والأفعال في أنفسها سواء قبل ورود الشرع، وليس الحسن والقبح صفتين ذاتيتين للأشياء، قالوا :إن أفعاله تعالى ليست معللة بالأغراض والغايات، ونفوا بناء على ذلك الحكمة على ما سبق بيانه ."
وبعد أن استعرض آراء القوم دخل فى تاريخ المسألة وهو بالقطع تاريخ كاذب كمعظم تواريخنا فقال :
"ثانيا :تاريخ المسألة .
- تاريخها في هذه الأمة :
أول من بحث هذه المسألة من أهل الكلام هو الجهم بن صفوان، حين وضع قاعدته المشهورةإيجاب العارف بالعقل قبل ورود الشرع
وقال : إن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها
وقد أخذ بهذا القول المعتزلة –كما سيأتي إن شاء الله تفصيل مذهبهم -وبنو عليه أصلهم، وأخذه عنهم الكرامية
- تاريخها قبل هذه الأمة .
القول بالتحسين والتقبيح العقليين قد جاء -قبل الإسلام - من بعض الديانات الهندية، وهو قول التناسخية، والبراهمة، والثنوية، وهم -كما يقال -الذين وضعوا البذور الأولى للقول بإيجاب المعارف عقلا
ثالثا :تحرير محل النزاع .
-اتفق الجميع على أن من الأشياء ما لا يدرك إلا بالشرع، كبعض تفاصيل الشرائع والعبادات .
- وأما بالنسبة لمعاني الحسن والقبح فتطلق على ثلاثة أشياء ببيانها يتضح محل النزاع :
المعنى الأول :أن يراد بالحسن والقبح : ما يوافق غرض الفاعل من الأفعال وما يخالفه، أو ما يطلق عليه : الملائمة والمنافرة للإنسان ...فهذا معلوم بالعقل بالاتفاق فإنه قد يعنى بالحسن والقبح كون الشيء ملائما للطبع أو منافرا له، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين . فما وافق غرض الفاعل يسمى حسنا ويدرك بالعقل، كحسن قتل العدو، وهو ما يسمونه مصلحة أو ملائمة طبع، وما خالف غرض الفاعل يسمى قبيحا، كالإيذاء، ويسمى مفسدة أو منافرة للطبع، قال شيخ الإسلام في التدمرية في كلامه على مسألة الحسن والقبح فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، أو سببا لما يبغضه ويؤذيه .
وقال كذلك: والعقلاء متفقون على كون بعض الأفعال ملائما للإنسان، وبعضها منافيا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل ...ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك
- والحسن والقبح بهذا المعنى اعتباري نسبي، وليس ذاتيا،فإن قتل زيد مثلا مصلحة لأعدائه ومفسدة لأوليائه .
-ا لمعنى الثاني : أن يراد بالحسن والقبح : كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، كقولنا :العلم حسن، والجهل قبيح، ولا نزاع هنا -أيضا -في كونهما عقليين .
ويرى شيخ الإسلام أن هذا المعنى راجع للمعنى الأول، لأنه عائد إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة والألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي
فلا نزاع في هذين المعنيين بين أهل الكلام أنهما عقليان يستقل العقل بإدراكهما
- المعنى الثالث :أن يراد بالحسن والقبح :كون الفعل يتعلق به المدح والثواب، و الذم والعقاب .
فما تعلق به المدح والثواب في الدنيا والآخرة كان حسنا، وما تعلق به الذم والعقاب في الدنيا كان قبيحا فهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف
وقال الرازي : وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا، وفي كون الفعل متعلق المدح عاجلا، والثواب آجلا، هل يثبت بالشرع أو بالعقل ... وفيما سيأتي بإذن الله نذكر أهم الأقوال في ذلك ."
والمسألة أهون من ذلك فالعقل لم يكن موجودا قبل الشرع وهو الوحى ولو افترضنا كونه موجود فإنه لا يقدر على التقبيح والتحسين لأن ذلك يتطلب أساس يحكم بناء عليه وهو الوحى
الوليد ينزل بعقل ولكنه لا يعمل ولذا نفى الله المعرفة عنها تماما فقال :
" والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا"
ومن ثم لا يمكن أن يحسن العقل أو يقبح إلا عبر أساس أخر استقاه من وحى الله
ولو سلمنا بتقبيح وتحسين العقل فلا حاجة لرسالات الرسل(ص) لأن كل واحد منا فيه عقل يقدر على التشريع الصحيح ولكنه هذا غير صحيح بدليل أن الناس اخترعوا كم هائل من الأديان المتناقضة وهم يحسبون أنهم مبنية على العقل ولكنها فى الحقيقة مبنية على أهواء النفوس
واستعرض فى الفصل الأول مذهب المعتزلة فقال:
"الفصل الأول : مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح
المبحث الأول :تقرير مذهبهم :
ذهبت المعتزلة إلى القول بالتحسين والتقبيح العقلي، ولعل مذهبهم يتضح من خلال النقاط التالية :
- ذهبوا إلى إثبات الحسن والقبح بالعقل وجعلوا حسن الأفعال وقبحها للعقل فقط .
- قالوا :إن حسن الأشياء وقبحها صفتان ذاتيتان في الأشياء، والفعل حسن أو قبيح، إما لذاته، وإما لصفة من صفاته اللازمة له، وإما لوجوه واعتبارات أخرى ولذا قالوا بإمكان إدراكها بالعقل.
-أما الشرع فجعلوه كاشف ومبين لتلك الصفات فقط .
-ونتيجة لذلك جعلوا استحقاق الثواب والعقاب على مجرد معرفة العقل حسن الأفعال وقبحها ولو لم تبعث الرسل .
وإليك ذكر طرف من أقوالهم الكاشفة لحقيقة مذهبهم في ذلك :
- قال ابن المرتضي : إنما يقبح الشيء لوقوعه على وجه من كونه ظلما أو كذبا أو مفسدة، إذ متى علمناه كذلك علمنا قبحه، وإن جهلنا ما جهلنا، ومتى لا فلا، وإن علمنا ما علمنا
- قال عبد الجبار الهمذاني المعتزلي في كتابه شرح الأصول الخمسة )قد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل .
- وقال في كتابه المغني في أبواب التوحيد )إن في الأفعال الحسنة ما يعلم من حاله أن فاعله يستحق المدح بفعله
- وقال : قد بينا بطلان قول المجبرة الذين يقولون إن بالعقل لا يعرف الفرق بين القبيح والحسن، وإن ذلك موقوف على الأمر والنهي بوجوه كثيرة، فليس لأحد أن يقول :إنما يحتاج إلى السمع ليفصل العاقل بين الواجب والقبيح
- وقال في نفس الكتاب في تعريف القبيح : إنه ما إذا وقع على وجه من حق العالم بوقوعه كذلك من جهته، المخلي بينه وبينه، أن يستحق الذم إذا لم يمنع منه مانع، وهذا مستمر في كل قبيح .... ثم يقول )وأما وصف القبيح بأنه معصية فمعناه :أن المعصي قد كرهها، ولذلك يقال في الشيء الواحد :إنه معصية لله، طاعة للشيطان، من حيث كرهه الله وأراده الشيطان، ولذلك يستعمل مضافا، ولكنه بالتعارف قد صار إطلاقه يفيد كونه معصية لله، فلذلك يفيد كونه قبيحا، لأن ما كرهه تعالى فلا بد من كونه قبيحا، ولو كره تعالى ما ليس بقبيح -تعالى الله عن ذلك -لوصف بذلك، لكن لما ثبت أنه لا يكره إلا القبيح، أفاد بالإطلاق ما ذكرناه
ثم يقول في تعريف الحسن : اعلم أنه لما علم باضطرار أن في الأفعال على وجه لا يستحق فاعله –إذا علمه -عليه الذم على وجه وصف بأنه حسن ...والمباح كله حسن، لا صفة له زائدة على حسنه ... وكل ما وصفنا به الحسن يستعمل في أفعاله تعالى، وإن كانت لا توصف أفعاله بأنها مباحة ويقول كذلك : ولا يجوز أن يكون الموجب لقبحه أحوال الفاعل منا، نحو كون الواحد منا محدثا مربوبا، مملوكا، مقهورا مغلوبا، ولا يجوز أن يكون ماله يقبح القبيح منا النهي، ولا أنا نتجاوز به ما حد به ورسم لنا، ولا يجوز أن يكون ما له حسن لحسن الأمر، وأنا لم نتجاوز ما حد به ورسم لنا، ولا يجوز أن يكون الموجب لحسن أفعاله جل وعز أنه رب، مالك ناه آمر ناصب للدليل، متفضل، ...ونحن نبين أن ما أوجب قبح القبيح متى حصل يجب كونه قبيحا، وكذلك ما أوجب حسن الحسن، ووجوب الواجب ...وهذه القضية لا تختلف باختلاف الفاعلين، وإن حكم أفعال القديم في ذلك حكم أفعالنا
ويلاحظ في كلامه الأخير تشبيه أفعال الله بأفعال المخلوقين، وتسويته بينها فيما يقبح ويحسن، وإيجابه على الله ما رأوه حسنا،تعالى الله وتقدس عن قوله .
وقال كذلك مقررا أن الشرع مجرد كاشف عن أشياء معلومة مسبقا بالعقل وأن العقل هو الذي يوجبها وليس الشرع، قال واعلم أن النهي الوارد عن الله عز وجل يكشف عن قبح القبيح، لا أنه يوجب قبحه، وكذلك الأمر يكشف عن حسنه، لا أنه يوجب حسنه وقال : إنا لو علمنا بالعقل أن الصلاة مصلحة لنا لزمت كلزومها إذا عرفنا ذلك من حالها شرعا، لأنا إذا علمنا بالعقل ما نعلمه بدليل السمع بعينه فيجب كون الفعل لازما
وقال أبو هذيل العلاف : يجب على المكلف أن يعرف الله بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقاب أبدا، ويعلم حسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور .
وقال الشهرستاني عن المعتزلة وقال أهل العدل -المعتزلة - المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح .
وجمهور الماتريدية قد قالوا كما قالت المعتزلة، إلا أنهم خالفوهم في إيجابهم على الله تعالى فعل الصلاح والأصلح، لعباده، ووجوب الرزق والثواب على الطاعة، وفي غيرها من المسائل .
تنبيهان حول مذهب المعتزلة :
- مما ينبه له أن المعتزلة يرون -كغيرهم -أن بعض الأشياء إنما يعلم حسنها أو قبحها بالشرع، ولا يدرك العقل حسنها ولا قبحها، ضرورة ولا نظرا، وإن كان في الجملة يعلم حسن كل ما أمر به الشرع، ويدرك الحسن إجمالا، ويعلم قبح الأشياء التي نهى عنها الشرع، ويدرك القبح إجمالا، ومن تلك الأشياء :
تفاصيل العبادات التي لا يدرك العقل حكمتها، وذلك كحسن كون صلاة المغرب ثلاث ركعات، والفجر ركعتين، وقبح تحري الصلاة وقت النهي، وحسن صيام آخر يوم من رمضان، وقبح صيام أول يوم من شوال، ونحو ذلك مما لا يدركه العقل ابتداء، ومن ذلك :إلزام العاقلة الدية، يقول القاضي عبد الجبار : كما ورد الشرع في إلزام العاقلة الدية، ولم يقع منها إتلاف، وهذا مما لا مدخل له في التكاليف العقلية، وإن كانت مجوزة لورود السمع به فهم يرون أن بعض تفاصيل الحسن والقبح لا تدرك بالعقل، وإنما بينها الشرع، ولذلك أوجبوا على الله بعثة الرسل .
يقول القاضي عبد الجبار مقررا هذا المعنى : لما لم يمكنا أن نعلم عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة، بعث الله إلينا الرسل ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا، وتفصيل ما قد تقرر فيها
- وقع خلاف بين المعتزلة في مسألة قبح الأفعال وحسنها، هل هو لذاته أم لصفة من صفاته اللازمة له :
فمدرسة البصرة، وعلى رأسهم (أبو هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار :يرون أن الفعل الحسن والقبيح إنما كان ذلك لوجوه واعتبارات وأوصاف إضافية وقع الفعل عليها .
ما مدرسة بغداد :فترى أن الحسن والقبح إنما هو لذات الفعل .
وقال بعضهم : أن الحسن والقبح إنما هو لصفة حقيقية توجب ذلك "
يكفى فى رد قول المعتزلة وكل من قال بأن العقل حكم فى التحسين والتقبيح أنهم اختلفوا فى الكثير من المسائل فبعضهم اعتبرها حسنة وبعضهم اعتبرها قبيحة
كما أن القول بأن الصدق حسن والكذب قبيح والفجور قبيح يعارض أن الله أباح بعض الكذب فقال :
"ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"
وأباح بعض الفجور وهو السوء من القول لمن ظلم فقال :
"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"
وناقش القاضى أقوال المعتزلة فقال :
"المبحث الثاني : مناقشة قول المعتزلة في التحسين والتقبيح .
مما سبق من تقرير مذهب المعتزلة، نجد أنهم أصابوا من جهة وأخطأوا من من جهة أخرى :
صابوا :بقولهم إن لتلك الأفعال حسنا وقبحا ذاتيا يمكن إدراكه بالعقل .
وأخطأوا :أولا : في إيجابهم على الله تعالى أشياء بمحض عقولهم بل أوجبوا على الله أشياء مخالفة للصحيح الصريح من نصوص الكتاب والسنة، ورود الشرع .
وثانيا : في أنهم رتبوا التكليف والعقاب والثواب على ذلك، حتى لو كان قبل
فيجاب عليهم :
أن إيجابهم العقلي على الله باطل، لأنه يلزم أن يكون هناك موجب فوق الله أوجب علي شيئا، ولا موجب عليه سبحانه، كما يلزم عيه ألا يكون سبحانه فاعلا مختارا، وهو باطل
وقولهم هذا فيه تشبيه لله بخلقه، فهم يوجبون على الله ما يوجبونه على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمونه على العبد، وهذا أمر باطل، فالله تعالى كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، فكذلك ليس كمثله شيء في أفعاله، وكيف يقاس تعالى بخلقه ونحن نرى كثيرا من الأفعال تقبح من العبد وهي حسنة منه تعالى لحكم يعلمها سبحانه، كإيلام الأطفال والحيوان
أما ما أوجبه الله تعالى على نفسه فهو حق لا مرية فيه، فالله تعالى يجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، فهو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأحق على نفسه نصر المؤمنين، وثواب المطيعين، وحرم على نفسه الظلم .
قال تعالى:"كتب ربكم على نفسه الرحمه"
وقال : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين"
وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا
وهذا الإيجاب منه سبحانه إنما هو تفضل ورحمه، فلا أحد يوجب عليه سبحانه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه ،وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا ،ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال : إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح، ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك
وأما الجواب على خطأهم الثاني في أنهم رتبوا الإيجاب والثواب والتحريم والعقاب على التحسين والتقبيح العقلي ولو لم يرد به الشرع، فيقال : إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، لكن لا يترتب عليها الثواب والعقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل العقاب لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله تعالى لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالكذب والسرقة والزنا كلها قبيحة في ذاتها، لكن العقاب عليها مشروط بالشرع .
فترتيب العقاب على فعل القبيح أو ترك الواجب مشروط بالسمع، وانتفاء العقاب عند انتفاء السمع من انتفاء المشروط لانتفاء شرطه، لا من انتفاء المسبب لانتفاء سببه، فإن سببه قائم ومقتضيه موجود، إلا أنه لم يتم لتوقفه على شرطه، وعلى هذا فكونه متعلقا للثواب والعقاب والمدح والذم عقلي، وإن كان وقوع العذاب موقوف على شرط وهو ورود السمع
ويلزم على قول المعتزلة أن الحجة تقوم بدون الرسل، وهذا باطل .
وقد دل القران على عدم التلازم بين التحسين العقلي والثواب، ولا بين التقبيح العقلي والعقاب، وأن الله تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن أو قبيح، قال تعالى :
"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"
فدلت الآية على أن العذاب لا يكون إلا ببعثة الرسل، وهو دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع .
"تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير"
فدلت الآية –كسابقتها -على أنه لا يثبت العقاب إلا بالشرع، فالخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم العقل، بل سألوهم عن مخالفتهم للنذير "
وتحدث القاضى فى الفصل الثانى عن مذهب ألأشاعرة فقال :
"الفصل الثاني : مذهب الأشاعرة في التحسين والتقبيح .
المبحث الأول :تقرير مذهبهم
ذهب الأشاعرة إلى القول بالتحسين والتقبيح الشرعيين لا العقليين :
فقالوا : إنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع وقالوا :إن الحسن والقبح الذي يتعلق به المدح والثواب، و الذم والعقاب، إنما يدرك بالشرع فحسب، وليست الأشياء في ذاتها حسنة ولا قبيحة بل توصف بذلك باعتبارات غير حقيقية .
فهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح في الأشياء اعتباري ونسبي، أي :أنه ليس صفة لازمة وذاتية في الشيء، وإنما يعرف حسن الأشياء وقبحها باعتبارات إضافية .
قال الآمدي في سياق تقريره لمذهب الأشاعرة : إن الحسن والقبح ليس وصفا ذاتيا للحسن والقبيح، ولا أن ذلك مما يدرك بضرورة العقل ونظره، بل إطلاق لفظ الحسن والقبح عندهم باعتبارات غير حقيقية، بل إضافية، يمكن تغيرها وتبدلها بالنظر إلى الأشخاص والأزمان والأحوال
ويقول الجويني : العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع، وموجب السمع، وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له، وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له في جملة أحكام صفات النفس، فإذا ثبت أن الحسن والقبح عند أهل الحق لا يرجعان إلى جنس وصفة نفس، فالمعنى بالحسن :ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح :ما ورد الشرع بذم فاعله
يقول الإيجي : ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه، لم يكن ممتنعا، وانقلب الأمر فعلى هذا قد يأمر الله بالشرك والكفر والقتل والزنا فتكون حسنة، وقد ينهى عن التوحيد والصدق والإحسان فتكون قبيحة .
ومما يدل على فساد قولهم أنهم قد أجازوا على الله فعل أشياء يتنزه عنها الرب تعالى، ولا يصح أن تنسب إليه، كتعذيب عباده المخلصين، وتنعيم عدائه الكافرين ."
وقول الأشاعرة أفضل من قول المعتزلة وقد ناقشه القاضى فقال:
"المبحث الثاني :مناقشة قول الأشاعرة في التحسين والتقبيح .
ما ذهب إليه الأشاعرة من نفي حسن الأفعال وقبحها وتعطيل العقل عن معرفة ذلك، قد خالفوا به صحيح المنقول وصريح المعقول :
ا - فمخالفتهم لصحيح المنقول :ففي القران آيات كثيرة تدل على أن الحسن والقبح ثابت للأشياء في ذاتها
قال تعالى:"يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث"
ووجه الدلالة :الآية صريحة في أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها، فالمعروف الذي يأمر به الله ما تعرفه وتقر به العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والمنكر الذي نهاهم عنه هو ما تنكره العقول والفطر السليمة، وتقر بقبحه، ولو لم يمن للأشياء حسن وقبح لذاتها، وإنما كان ذلك من قبل الشارع وأن ما أمر به الحسن وما نهى عنه هو القبيح لكان معنى الآية : يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن رب العالمين .
وقال تعالى أيضا : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فدلت الآية على أن الحلال كان طيبا قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه , فلو كان الحلال والخبيث إنما عرفا بالتحليل والتحريم لكان معنى الآية يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم وهذا لا يليق بنظم كلام الله تعالى .
نعم :الطيب إذا أحل من الشارع فقد اكتسب طيبا آخر إلى طيبه، فصار طيبا من الوجهين، وكذلك القبيح إذا نهى الشارع عنه اكتسب قبحا إلى قبحه، فصار قبيحا من الوجهين معا .
وقال تعالى:"ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا" فدلت الآية على أن الزنى إنما تعلق به النهي لكونه قبيحا وفاحشة، وهذا الوصف ثابت له قبل النهي عنه، ولو لم يكن قبيحا وفاحشة في نفسه لكان معنى الآية : ولا تقربوا الزنى فإنه منهي عنه، وهذا من تعليل الشيء بنفسه وهو باطل .
ويلاحظ أن هذه الأدلة تدخل في الأدلة التي سبقت في ثبات الحكمة والتعليل في أفعاله سبحانه، فنفي الأشاعرة للحكمة والتعليل نتج عنه قولهم بنفي الحسن والقبح العقلي .
قال تعالى : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون فأخبر سبحانه أن الحق لو اتبع أهواء العباد فجاء شرع الله ودينه بأهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ومعلوم أن عند النفاة يجوز أن يرد شرع الله ودينه بأهواء العباد، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين ما ورد به وبين ما تقتضيه أهواؤهم إلا مجرد الأمر، وإنه لو ورد بأهوائهم جاز وكان تعبدا ودينا، وهذه مخالفة صريحة للقرآن، وإنه من المحال أن يتبع الحق أهوائهم ،وأن أهواءهم مشتملة على قبح عظيم لو ورد الشرع به لفسد العالم أعلاه وأسفله وما بين ذلك، ومعلوم أن هذا الفساد إنما يكون لقبح خلاف ما شرعه الله وأمر به ومنافاته لصلاح العالم علويه وسفليه، وإن خراب العالم وفساده لازم لحصوله ولشرعه، وأن كمال حكمة الله وكمال علمه ورحمته وربو بيته يأبى ذلك ويمنع منه، ومن يقول : الجميع في نفس الأمر سواء يجوز ورود التعبد بكل شيء، سواء كان من مقتضى أهوائهم أو خلافها .
- وأما مخالفتهم لصريح المعقول فيما ذهبوا إليه من نفي الحسن والقبح الذاتي للأفعال، وتعطيل العقل عن معرفة ذلك ففيه جمع بين الأمور المختلفة الممتنعة عند ذوي العقول الصريحة والفطر المستقيمة، فإذا كان العقل ليس له مدخل في معرفة حسن الأفعال وقبحها، فإن ذلك يستلزم أن تكون الأفعال الحسنة والقبيحة في حقه متساوية كالصدق والكذب والعدل والظلم والكرم والبخل والبر والفجور، وحكم الضدين بهذه العبارة يكون باطلا لا يقول به من له أدنى مسكة من علم وإيمان وعقل
قال تعالى:"أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار"
وقال جل من قائل:"أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون"
قال ابن القيم : فدل على أن هذا حكم سيء قبيح ينزه الله عنه ولم ينكره سبحانه من جهة أنه أخبر بأنه لا يكون، وإنما أنكره من جهة قبحه في نفسه، وإنه حكم سيء يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله ووقوع أفعاله كلها على السداد والصواب والحكمة، فلا يليق به أن يجعل البر كالفاجر ولا المحسن كالمسيء ولا المؤمن كالمفسد في الأرض، فدل على أن هذا قبيح في نفسه تعالى الله عن فعله
ومن قال :إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح لذاتها فهو بمنزلة قوله : ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين، والتبريد، والإشباع ، والإرواء ، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار .
وكذلك يقال :إن حسن الصدق وقبح الكذب أمر يدركه العقلاء، وهو مركوز في الفطر، والقول بأن الكذب قد يحسن أحيانا كما لو رتب عليه عصمة مسلم من القتل ظلما غير مسلم، فتخلف القبح عن الكذب لفوات شرط، أو لقيام مانع، يقتضي مصلحة راجحة على الصدق، لا تخرجه عن كونه قبيحا لذاته، ومن ذلك أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير للمفسدة في تناولها وهي ناشئة من ذوات هذه المحرمات، وتخلف التحريم عنها عند الضرورة لا يوجب أن تكون ذاتها غير مقتضية للمفسدة التي حرمت لأجلها، فهذا الكذب متضمن عصمة المسلم ."
القاضى هنا يرمى القوم بتعطيل العقل عن معرفة الصحيح من القبيح وهو كلام مخالف لكتاب الله لأن العقل كما سبق القول يبنى معارفه الصحيحة على الشرع وهو الوحى ومن ثم لا دور للعقل سوى التسليم بوحى الله
وحدثنا عن مذهب السنة فى المسألة فقال :
"الفصل الثالث : مذهب أهل السنة والجماعة في التحسين والتقبيح
وإنما أخرت ذكر مذهب أهل السنة والجماعة لكي تنجلي وسطيته بين طرفي الضلال، ولكونه قد جمع ما في ذينك المذهبين من حق واطرح ما فيهما من باطل، وأيضا لكي يتضح أن أهل السنة والجماعة هم أسعد المذاهب بالأدلة التي نظر كل فريق من الفريقين الآخرين إلى طرف منها وأهملوا طرفا، وحكموا عقولهم الفاسدة على الشرع حينا، واطرحوا العقل وأتوا بما يسخر منه البشر في أحيان أخر .
فوافق أهل السنة المعتزلة في قولهم : إن للأفعال حسنا وقبحا ذاتيين يمكن إدراكه بالعقل،
وخالفوهم حين قالوا بترتب التكليف والعقاب على ذلك الحكم العقلي،وكذلك خالفوهم حين أوجبوا على الله ما حسنته عقولهم وحرموا عليه ما قبحته عقولهم .
وخالف أهل السنة الأشاعرة في زعمهم ن تلك الأفعال لم تثبت لها صفة الحسن والقبح إلا بخطاب الشرع، وأنها في ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة،ووافقوهم في قولهم بأن التكليف والعقاب موقوف على خطاب الشرع، وفي إثباتهم للحسن والقبح الشرعيين .
فمذهب أهل السنة والجماعة يمكننا أن نجمله بالنقاط التالية :
إثبات حسن بعض الأفعال وقبحها بالعقل والشرع، ولا يلزم أن يدركها جميعا، لأن منها ما قد يخفي على بعض العقول،والشرع زاد حسن الأفعال الحسنة بالعقل حسنا، وزاد القبيحة قبحا
الثواب على فعل الأفعال الحسنة، والعقاب على فعل الأفعال القبيحة إنما هو من قبل الشارع، فلا يجب على المكلف شيء قبل ورود الشرع .
قال ابن القيم : وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة، وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما، فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين، فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي، وأحسنوا في رد ذلك عليهم، واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة، وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها، وأحسنوا في رد هذا عليهم، فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب، وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله، ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له
وقال كذلك : والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل أنه لا تلازم بينهما أي بين الحسن والقبح الذاتي المدرك بالعقل، وترتب الثواب والعقاب عليهما وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة كما أنها نافعة وضاره، والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات ،ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والأوثان والكذب والزنا والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها والعقاب عليها مشروط بالشرع
وبين شيخ الإسلام أنواع الحسن والقبح في الأفعال فقال :
قد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع :
أحدها : أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة و لو لم يرد الشرع بذلك
كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن و قبيح و قد يعلم بالعقل و الشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، و هذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة و لو لم يبعث إليهم رسولا، و هذا خلاف النص ..
النوع الثاني :أن الشارع إذا أمر بشىء صار حسنا و إذا نهى عن شيء صار قبيحا و إكتسب الفعل صفة الحسن و القبح بخطاب الشارع
والنوع الثالث : أن يأمر الشارع بشىء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه و لا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح إبنه، فلما أسلما و تله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح ...فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به .
وهذا النوع و الذي قبله لم يفهمه المعتزلة و زعمت أن الحسن و القبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع
والأشعرية إدعوا أن جميع الشريعة من قسم الإمتحان، و أن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع و لا بالشرع
و أما الحكماء و الجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة و هو الصواب
فتبين بهذا أن المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به تارة ومن الأمر تارة ومنهما تارة ومن العزم المجرد تارة
أما أدلة أهل السنة على مذهبهم فقد سبق ذكرها ضمن الرد على المعتزلة والأشاعرة، فلتراجع هناك ."
وقطعا ما ذكره الرجل عن اتفاق العقل والشرع يخالف أن المسلم لا يكون مسلما حتى يسلم بما قضى الله ورسوله(ص) بقوله:
"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا"
فلو كان للعقل أى دور فى التحسين والتقبيح لأصبح شريكا لله تعالى عن ذلك ولكن جعل الله كل شىء نابع من شرعه
رضا البطاوى- عضو ممتاز
-
عدد الرسائل : 3602
العمر : 56
العمل : معلم
تاريخ التسجيل : 18/07/2011
مواضيع مماثلة
» قراءة فى كتاب صريح السنة
» قراءة فى كتاب زيارة النبي الأكرم (ص) في السنة النبوية
» قراءة فى كتاب أقوال علماء السنة في قصيدة البردة
» نقد كتاب ثورة في السنة النبوية
» قراءة فى كتاب أدب الاختلاف
» قراءة فى كتاب زيارة النبي الأكرم (ص) في السنة النبوية
» قراءة فى كتاب أقوال علماء السنة في قصيدة البردة
» نقد كتاب ثورة في السنة النبوية
» قراءة فى كتاب أدب الاختلاف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى