نظرات فى كتاب المصالح المرسلة2
صفحة 1 من اصل 1
نظرات فى كتاب المصالح المرسلة2
وذكر الشنقيطى اختلافات القوم فى العمل بالمصالح المرسلة فقال :
"واعلم أن العلماء غير مالك اختلفوا في العمل بالمصلحة المرسلة، قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث تقسيم المناسب الذي ذكرنا إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل ما نصه: "فإن دل الدليل إلغائه فلا يعلل به، وإلا فهو المرسل قَبِله مالك مطلقاً، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقاً، وقوم في العبادات الخ"
وقال شارحه صاحب الضياء اللامع: "وما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إهدار، ولكنه على سنن المصالح وتتلقاه العقول بالقبول فهو المرسل، واختلف في العمل به على مذاهب:
أحدهما: ردُّه وبه قال القاضي أبو بكر، والشافعي في أحد قوليه، وعزاه المصنف يعني ابن السبكي إلى الأكثر
والثاني: اعتباره مطلقاً وبه قال مالك وحكاه القرافي في شرح المحصول عن معظم الحنفية، وهو أحد قولي الشافعي، وقد قال الأبياري: ما ذهب إليه الشافعي هو عين مذهب مالك، وقد رام الإمام يعني إمام الحرمين التفريق بين المذهبين ولا يجد إلى ذلك سبيلاً أبداً، ثم يقال له: ما ذكرته من التقييد لقول الشافعي من التقريب من قواعد الشريعة ما مأخذه وما المراد به، وفي أي جهة يشترط التقارب؟ أفي مجرد المصلحة أم في وجه آخر، أقرب من ذلك؟ فإن اكتفى بمجرد التقارب في المصلحة لزمه إعمال جميع المصالح،
وإن اشترط الاشتراك في الوجه الأخص فهو المؤثر بعينه، وبين الدرجتين رتب في القرب والبعد لا تنضبط بحال"، وقد أطال الكلام في المسألة ورد على القاضي والإمام فيما قالاه وقال: "إذا نظر المنصف في أقضية الصحابة يتبين له أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدل الدليل على إلغاء تلك المصلحة، قال: وهو أمر مقطوع به عن الصحابة" ونحوه للقرافي، وقد عدد كثيراً من وقائع الصحابة التي اعتمدوا فيها على مطلق المصلحة من غير أصل تبنى عليه، وقال: "إن مجموع ذلك يفيد القطع"انتهى محل الغرض منه
وقال في نفس البحث المذكور: "وقال القرافي في شرح المحصول: يحكى أن المصالح المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك بل اشترك فيها جميع المذاهب فإنهم يعللون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المصلحة، ثم إن الشافعية يدعون أنهم أبعد الناس عنها وهم قد أخذوا منها بأوفر نصيب حتى تجاوزوا فيها
هذا إمام الحرمين قيم مذهبهم ضمن بعض كتبه أمورا من المصالح لم يوجد لها في الشرع أصل يشهد لخصوصها، وكذا فعل الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية فإنه توسع في ذلك توسعاً كثيراً لم يوجد للمالكية منه إلا اليسير"، وذكر بعض أمثلة مما ذكروه ثم قال: "فلو قيل أن الشافعية هم أهل المصالح المرسلة دون غيرهم لكان ذلك هو الصواب" وقال الغزالي في المستصفى: "وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولابد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:
1ـ قسم شهد الشرع باعتبارها
2ـ وقسم شهد لبطلانها
3ـ وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها إلى أن قال:
القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين، وهذا في محل النظر إلى آخر كلامه الطويل وفيه تقسيم المصالح إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما أوضحنا، ومعلوم أن الضروريات يراد بها درء المفسدة عن الدين والنفس، والعقل والنسب والعرض والمال"
وإن كان الغزالي عدها خمساً فحذف العرض، ثم قال بعد ذلك: "فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين يعني الحاجيات والتحسينيات لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلى أن قال: أما الواقع في رتبة الضروريات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله: أن الكفار لو تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوما لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن توصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لم يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لا نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظاً للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه، كالفصد والحجامة وغيرها"إلى آخر كلامه
فتراه في هذا الكلام صرح بجواز العمل بالمصلحة المرسلة بالقيود المذكورة في مسألة تترس الكفار بالمسلمين وذكر أن العمل بها لا يجوز في مرتبة الحاجيات والتحسينيات فهنا في المستصفى ذكر جواز العمل بها في خصوص الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات ولكنه ذكر في شفاء الغليل جواز العمل بها في الحاجيات أيضاً واعلم أن مسألة التترس المذكورة اعترضت على الغزالي من وجهين: اعترضها السبكي في جمع الجوامع بأنها ليست من المصالح المرسلة
لدلالة النصوص على العمل بها فقال: "وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية لأنها مما دل الدليل على اعتباره فهي حق قطعاً، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع" من جمع الجوامع
وتراه زعم أن مسألة الترس ليست من المرسل لشهادة الشرع لها واعترضها أيضاً عليه الأبياري من المالكية وهو من شيوخ ابن الحاجب بأن قال: "ما قاله يعني الغزالي في المسألة المذكورة غير صحيح ولم يبد دليلا على ما ادعاه بل اقتصر على مجرد الدعوى، واعتباره القيود الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية أمر لا يتصور ولا وقوع له في الشريعة أصلا" اهـ منه بواسطة نقل ابن حلولو في الضياء اللامع
ثم قال الغزالي في المستصفى: "فإن قيل فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أو لا، قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا دخلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الفرقة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج، لأنا نعلم أنه إذا تعارض شرّان أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرّين، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل، عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضاً يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس، لكن هذا تصرف في الأموال، والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها وإنما المحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك" محل الغرض منه، وهو يدل على العمل بالمصلحة المرسلة في أخذ الإمام الأموال من الناس ليهيئ بها الجند لحفظ بلاد المسلمين من الكفار والظلمة ولا شك أن حفظ بلاد المسلمين يجب على ولاة المسلمين وإن لم يكن لذلك طريق ممكنة إلا أخذ بعض الأموال من الأغنياء ولا خلاف في ارتكاب أخف الضررين وجواز العمل به وإن كانت مصلحة مرسلة"
ما سبق من كلام حول اختلافات القوم فى العمل بالمصالح وعدم العمل بها وتقسيمها لثلاث ثم لخمس وغير هذا إنما هو ضرب من العبث خاصة أن البعض ينكره ومع هذا يستعمله كما أن المسائل المطروحة كلها عبارة عن روايات من يدرسها سيعلم تناقضها مع نفسها ومع القرآن
ثم ذكر عدم تقسيم الأرض فى الحرب فقال:
"واعلم أن ما فعله عمر من عدم قسمه للأرض المغنومة من الكفار مع أن ظاهر القرآن يدل على أن أربعة أخماسها للغانمين لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية أي والأخماس الأربعة الباقية للغانمين ولم يفعل عمر بل لم يقسم الأرض المغنومة على الغانمين وإنما تركها لينتفع بها جميع المسلمين في المستقبل لأنها لو قسمت لم يبق خراج يكفي الجيوش لحماية بلاد المسلمين ولذا صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لو لا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي (ص) خيبر"، وفي لفظ في الصحيح عن عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر المسلمين ليس لهم شيء ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها كما قسم النبي (ص) خيبر ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها" ليس معناه أن عمر خصص عموم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية بمصلحة مرسلة كما يظنه بعض المتعلمين الذين لم يمارسوا الكتاب والسنة، لأن كلام عمر صريح في أنه يرى أن الإمام مخير بين قسم الأرض المغنومة على الغانمين، وبين استبقائها لانتفاع جميع المسلمين لأن ذلك مفهوم من فعله (ص)، وقد حضره عمر لأن النبي (ص) قسم الأرض المغنومة تارة وترك قسمتها أخرى، فدل ذلك جواز كلا الأمرين، فقد قسم بعض أرض خيبر وترك بعضها، وقسم أرض قريظة ولم يقسم مكة، فإن قيل أرض خيبر أخذ بعضها عنوة وهو الذي قسم، وبعضها أخذ ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهو الذي لم يقسم
قلنا: قسم أرض خيبر وترك قسم أرض مكة كلاهما لا نزاع فيه، وهو يكفي لمحل الشاهد فإن قيل: مكة فتحت صلحاً لقوله (ص): "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" كما ثبت في صحيح مسلم
قلنا: إن التحقيق أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً ولذلك أدلة واضحة منها أنه لم ينقل أحد أن النبي (ص) صالح أهلها زمن الفتح وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان، ولو كانت قد فتحت صلحاً لم يقل من دخل داره أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن فإن الصلح يقتضي الأمان العام
ومنها حديث: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وأنه أذن لي فيها ساعة من نهار"، وفي لفظ: "إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار"، وفي لفظ: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله (ص) فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس"
ومنها أنه ثبت في الصحيح أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ثم قال: "يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار" فجاؤوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار هل ترون إلى أوباش قريش؟" قالوا: نعم قال: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصداً"
وهو صريح في أن مكة فتحت عنوة، وقتل فيها من الطرفين كما هو معروف ورجزُ حماس بن قيس يخاطب امرأته مشهور في ذلك وهو قوله:
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة لهم نهيتٌ خلفنا وهمهمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا تسمع إلا غمغمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة
ومنها أيضاً أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت رجلاً فأراد علي قتله فقال رسول الله (ص): "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وذلك يوم الفتح، ومنها أنه (ص) أمر بقتل مقيس بن صبابة وابن خطل وجاريتين، ولو كانت فتحت صلحاً لم يأمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن مكة فتحت عنوة فتركه (ص) قسم أرضها وبعض أرض خيبر وقسم بعض أرض خيبر وأرض قريظة يدل على جواز الأمرين وأن ذلك هو الذي لاحظه عمر لكن عمر فضل أحد الأمرين الجائزين استنادا إلى المصلحة المرسلة
فالحاصل أن الصحابة كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية"
وبالقطع كلها هذا استدلال خاطىء فالغنيمة هى الأموال الموجودة فى ميدان الحرب من أشياء موجودة مع القتلى من مال وذهب وطعام وسلاح وذخيرة ولو كان هذا فهما صحيحا لوجب تقسيم الجبال والأنهار والغابات والصحارى وكل شىء من الأرض على المقاتلين وهو أمر ليس فى مكنة أحد
التعارض مع القرآن هو مع قوله تعالى " ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون" فكل مسلم له نصيب من الأرض سواء جاهد أم لم يجاهد
كما اخبر المسلمين فى آية أخرى أنهم ورثوا جميعا الأرض فقال " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها" فلو كانت الأرض التى لم يطؤها أى لم يدخلوها ملكا فقط للمجاهدين فكيف ورثوها وهم لم يحاربوا أساسا ولم يدخلوها؟
ثم قرر الشنقيطى عمل كل المذاهب بالمصالح المرسلة رغم أن بعضهم ينكرها فقال :
"وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها، ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال
واعلم أن العمل بالمصالح المرسلة المذكور ليس تشريعاً جديداً خالياً عن دليل أصلاً بل من يعمل بها من العلماء كمالك وغيره يستند في ذلك إلى أمور
منها: عمل الصحابة بها من غير أن ينكر منهم أحد وهم خير أسوة
ومنها: أنه قد علم من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها ولا سيما إن كانت المصلحة متمحضة لم تستلزم مفسدة ولم تعارض مصلحة راجحة ولم تصادم نصا من الوحي
ومنها: أن بعض النصوص قد يدل لذلك كما ذكرنا آنفاً في صحيح مسلم من أن بعض الصحابة انتهر بريرة لتصدُق النبي (ص) فيما تعلم عن عائشة وبريرة مسلمة وإيذاء المسلم بالانتهار من غير ذنب حرام، وقد استباحه بعض الصحابة للمصلحة المرسلة وهي تخويف الجارية حتى تقول الحق، ولم ينكر النبي (ص) عليهم هكذا قيل "
وقول الشنقيطى أن المصبحة المرسلة تستند إلى اصل فى الشره هو ضرب من الوهم لأنه قوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء" جعل لكل مسألة فى الدنيا نص يبين حكمها ولا يوجد فى المصحف نص يبيح المصلحة المرسلة
ثم ذكر الشنقيطى
ولكن استناد المصلحة المرسلة إلى دليل خاص يخرجها عن كونها مرسلة كما ترى والعلم عند الله تعالى فمثال معارضتها لمصلحة أرجح منها غرس شجر العنب فإن منع وجوده في الدنيا يستلزم مصلحة هي السلامة من عصر الخمر منه، ولكن مصلحة السلامة من عصر الخمر من العنب بإعدامه من الأرض معارضة بمصلحة أرجح منها وهي انتفاع الناس بالعنب والزبيب فهذه المصلحة الراجحة تقدم على تلك المصلحة المرجوحة وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغرب"
وهذا الكلام عن العنب هو ضرب من الخبل لأن هناك نصوص عدة فيه كما قال تعالى "وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون"
ومن ثم فلا حاجة لكلام مع النصوص فالله خلق العنب لأكله كما فى الآية ومن ثم فمن يفكر فى منع زراعته أو محوه من ألأرض هو مجنون
ومن الخبل أن يضرب المثل التالى:
"ومن أمثلة هذا أيضاً إجماع المسلمين قديماً وحديثاً على جواز مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد، ولم ينقل عن أحد أنه قال يجب عزل النساء عن الرجال وإسكانهن منفردات عليهن في حصون قوية وأبواب من حديد مفاتيحها بيد من عرف بالتقوى والعفاف وكبر السن والغني بالزوجات، مع أن عزل النساء فيه مصلحة السلامة من الزنا لأن كون الجميع في بلد واحد قد يكون ذريعة إلى التوصل إلى الفاحشة بالإشارات ورمي الأوراق التي فيها مواعيد، والاتصال من فوق السطوح كما قال نصر بن حجاج بن علاط السلمي:
ليتني في المؤذنين نهارا وأنهم ينظرون من في السطوح
فيشيرون أو يشار إليهم حبذا كل ذات دل مليح
لأن مصلحة تعاون الذكور والإناث على الدين والدنيا في البلد الواحد بأن يكون الرجل ونساؤه في دارهم يتعاونون بأن يقوم كل بما يليق به من الخدمة أرجح من مصلحة قطع الذريعة إلى الزنا باجتماع الجنسين في البلد الواحد "
فالله خلق الذكر والأنثى للتعارف كما قال تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"فمن يفكر فى منع اختلاط النوعين مجنون كما أن النصوص طافحة فى القرآن بأمور توجب وجود النوعين فى مكان واحد وهو الزواج " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم" ومثل وجود الاخوة والأخوات فى بيت واحد ومثل أكلهم فى بيت معا كما قال تعالى" ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة"
ثم ضرب مثال فقال :
"ومثال استلزام المصلحة مفسدة راجحة أو مساوية ما إذا طلب المسلمون فداء أساراهم من الكفار فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يعلم به أن ذلك السلاح ييسر لهم قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن كان ييسر لهم قتل قدر الأسارى فالمفسدة مساوية وإن كان ييسر لهم قتل أكثر منهم فالمفسدة راجحة"
مثال مجنون فقتل الأسرى أمر سهل فلو ارادوا قتلهم لقتلوهم بأى وسيلة ولا يحتاج للسلاح المطلوب فى المثال المضروب وهم كانوا قادرين على قتلهم عند أسرهم ولم يكن يمنعهم شىء
كما أن الأسرى من المؤمنين مثلهم مثل باقى المجاهدين يحكمهم أنهم باعوا أنفسهم لله يقتلون ويقتلون كما قال تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة "
ومن ثم سيان أن يقتلوا فى الحرب من جانب العدو أو من جانب المسلمين الأخرين اضطرارا وخطأ
ثم ضرب أخر فقال :
"ومثال تأدية المصلحة إلى مفسدة في ثاني حال: أعني متجددة في المستقبل ما وقع من مؤمني قوم نوح عليه السلام فإن تصويرهم لرجالهم الصالحين يغوث ويعوق، ونسر، وود، وسواع، في حالته الأولى مصلحة وهي التي قصدوها بتصويرهم لأنهم إذا رأوا صورهم تذكروا صلاحهم وعبادتهم فبكوا وعبدوا الله وأطاعوه، ولكنهم لم يعلموا أن هذه المصلحة مستلزمة في المستقبل لمفسدة هي أعظم المفاسد وهي: أن ذلك التصوير وسيلة للكفر البواح والشرك بالله، لأنهم لما مات أهل العلم منهم وبقي أهل الجهل زين لهم الشيطان عبادة تلك الصور فعبدوها وذلك أول شرك وقع في الأرض، وهو أعظم مفسدة قد استلزمتها مصلحة مرسلة، ولم يتفطن لها عند استعمال المصلحة، وذلك يستوجب الحذر التام من العمل بالمصالح المرسلة خوف استلزامها بعض المفاسد التي تتجدد في المستقبل كما ذكرنا آنفاً"
والمثال الذى قاله الشنقيطى لا أصل له فالله لم يقل أن قوم نوح(ص) صوروا الخمسة وظاهر القرآن الخمسة هم كبار الكفار فى القوم كما قال تعالى على لسان نوح (ص)عقب ذكرهم "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا"
فالخمسة قال فيهم" وقد أضلوا كثيرا" فهم من أضلوا بقية القوم لمصلحتهم
"واعلم أن العلماء غير مالك اختلفوا في العمل بالمصلحة المرسلة، قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث تقسيم المناسب الذي ذكرنا إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل ما نصه: "فإن دل الدليل إلغائه فلا يعلل به، وإلا فهو المرسل قَبِله مالك مطلقاً، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقاً، وقوم في العبادات الخ"
وقال شارحه صاحب الضياء اللامع: "وما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إهدار، ولكنه على سنن المصالح وتتلقاه العقول بالقبول فهو المرسل، واختلف في العمل به على مذاهب:
أحدهما: ردُّه وبه قال القاضي أبو بكر، والشافعي في أحد قوليه، وعزاه المصنف يعني ابن السبكي إلى الأكثر
والثاني: اعتباره مطلقاً وبه قال مالك وحكاه القرافي في شرح المحصول عن معظم الحنفية، وهو أحد قولي الشافعي، وقد قال الأبياري: ما ذهب إليه الشافعي هو عين مذهب مالك، وقد رام الإمام يعني إمام الحرمين التفريق بين المذهبين ولا يجد إلى ذلك سبيلاً أبداً، ثم يقال له: ما ذكرته من التقييد لقول الشافعي من التقريب من قواعد الشريعة ما مأخذه وما المراد به، وفي أي جهة يشترط التقارب؟ أفي مجرد المصلحة أم في وجه آخر، أقرب من ذلك؟ فإن اكتفى بمجرد التقارب في المصلحة لزمه إعمال جميع المصالح،
وإن اشترط الاشتراك في الوجه الأخص فهو المؤثر بعينه، وبين الدرجتين رتب في القرب والبعد لا تنضبط بحال"، وقد أطال الكلام في المسألة ورد على القاضي والإمام فيما قالاه وقال: "إذا نظر المنصف في أقضية الصحابة يتبين له أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدل الدليل على إلغاء تلك المصلحة، قال: وهو أمر مقطوع به عن الصحابة" ونحوه للقرافي، وقد عدد كثيراً من وقائع الصحابة التي اعتمدوا فيها على مطلق المصلحة من غير أصل تبنى عليه، وقال: "إن مجموع ذلك يفيد القطع"انتهى محل الغرض منه
وقال في نفس البحث المذكور: "وقال القرافي في شرح المحصول: يحكى أن المصالح المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك بل اشترك فيها جميع المذاهب فإنهم يعللون ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المصلحة، ثم إن الشافعية يدعون أنهم أبعد الناس عنها وهم قد أخذوا منها بأوفر نصيب حتى تجاوزوا فيها
هذا إمام الحرمين قيم مذهبهم ضمن بعض كتبه أمورا من المصالح لم يوجد لها في الشرع أصل يشهد لخصوصها، وكذا فعل الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية فإنه توسع في ذلك توسعاً كثيراً لم يوجد للمالكية منه إلا اليسير"، وذكر بعض أمثلة مما ذكروه ثم قال: "فلو قيل أن الشافعية هم أهل المصالح المرسلة دون غيرهم لكان ذلك هو الصواب" وقال الغزالي في المستصفى: "وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولابد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:
1ـ قسم شهد الشرع باعتبارها
2ـ وقسم شهد لبطلانها
3ـ وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها إلى أن قال:
القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين، وهذا في محل النظر إلى آخر كلامه الطويل وفيه تقسيم المصالح إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما أوضحنا، ومعلوم أن الضروريات يراد بها درء المفسدة عن الدين والنفس، والعقل والنسب والعرض والمال"
وإن كان الغزالي عدها خمساً فحذف العرض، ثم قال بعد ذلك: "فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين يعني الحاجيات والتحسينيات لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلى أن قال: أما الواقع في رتبة الضروريات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله: أن الكفار لو تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوما لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن توصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لم يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لا نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظاً للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه، كالفصد والحجامة وغيرها"إلى آخر كلامه
فتراه في هذا الكلام صرح بجواز العمل بالمصلحة المرسلة بالقيود المذكورة في مسألة تترس الكفار بالمسلمين وذكر أن العمل بها لا يجوز في مرتبة الحاجيات والتحسينيات فهنا في المستصفى ذكر جواز العمل بها في خصوص الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات ولكنه ذكر في شفاء الغليل جواز العمل بها في الحاجيات أيضاً واعلم أن مسألة التترس المذكورة اعترضت على الغزالي من وجهين: اعترضها السبكي في جمع الجوامع بأنها ليست من المصالح المرسلة
لدلالة النصوص على العمل بها فقال: "وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية لأنها مما دل الدليل على اعتباره فهي حق قطعاً، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع" من جمع الجوامع
وتراه زعم أن مسألة الترس ليست من المرسل لشهادة الشرع لها واعترضها أيضاً عليه الأبياري من المالكية وهو من شيوخ ابن الحاجب بأن قال: "ما قاله يعني الغزالي في المسألة المذكورة غير صحيح ولم يبد دليلا على ما ادعاه بل اقتصر على مجرد الدعوى، واعتباره القيود الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية أمر لا يتصور ولا وقوع له في الشريعة أصلا" اهـ منه بواسطة نقل ابن حلولو في الضياء اللامع
ثم قال الغزالي في المستصفى: "فإن قيل فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أو لا، قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا دخلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الفرقة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج، لأنا نعلم أنه إذا تعارض شرّان أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرّين، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل، عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضاً يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس، لكن هذا تصرف في الأموال، والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها وإنما المحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك" محل الغرض منه، وهو يدل على العمل بالمصلحة المرسلة في أخذ الإمام الأموال من الناس ليهيئ بها الجند لحفظ بلاد المسلمين من الكفار والظلمة ولا شك أن حفظ بلاد المسلمين يجب على ولاة المسلمين وإن لم يكن لذلك طريق ممكنة إلا أخذ بعض الأموال من الأغنياء ولا خلاف في ارتكاب أخف الضررين وجواز العمل به وإن كانت مصلحة مرسلة"
ما سبق من كلام حول اختلافات القوم فى العمل بالمصالح وعدم العمل بها وتقسيمها لثلاث ثم لخمس وغير هذا إنما هو ضرب من العبث خاصة أن البعض ينكره ومع هذا يستعمله كما أن المسائل المطروحة كلها عبارة عن روايات من يدرسها سيعلم تناقضها مع نفسها ومع القرآن
ثم ذكر عدم تقسيم الأرض فى الحرب فقال:
"واعلم أن ما فعله عمر من عدم قسمه للأرض المغنومة من الكفار مع أن ظاهر القرآن يدل على أن أربعة أخماسها للغانمين لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية أي والأخماس الأربعة الباقية للغانمين ولم يفعل عمر بل لم يقسم الأرض المغنومة على الغانمين وإنما تركها لينتفع بها جميع المسلمين في المستقبل لأنها لو قسمت لم يبق خراج يكفي الجيوش لحماية بلاد المسلمين ولذا صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لو لا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي (ص) خيبر"، وفي لفظ في الصحيح عن عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر المسلمين ليس لهم شيء ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها كما قسم النبي (ص) خيبر ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها" ليس معناه أن عمر خصص عموم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية بمصلحة مرسلة كما يظنه بعض المتعلمين الذين لم يمارسوا الكتاب والسنة، لأن كلام عمر صريح في أنه يرى أن الإمام مخير بين قسم الأرض المغنومة على الغانمين، وبين استبقائها لانتفاع جميع المسلمين لأن ذلك مفهوم من فعله (ص)، وقد حضره عمر لأن النبي (ص) قسم الأرض المغنومة تارة وترك قسمتها أخرى، فدل ذلك جواز كلا الأمرين، فقد قسم بعض أرض خيبر وترك بعضها، وقسم أرض قريظة ولم يقسم مكة، فإن قيل أرض خيبر أخذ بعضها عنوة وهو الذي قسم، وبعضها أخذ ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهو الذي لم يقسم
قلنا: قسم أرض خيبر وترك قسم أرض مكة كلاهما لا نزاع فيه، وهو يكفي لمحل الشاهد فإن قيل: مكة فتحت صلحاً لقوله (ص): "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" كما ثبت في صحيح مسلم
قلنا: إن التحقيق أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً ولذلك أدلة واضحة منها أنه لم ينقل أحد أن النبي (ص) صالح أهلها زمن الفتح وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان، ولو كانت قد فتحت صلحاً لم يقل من دخل داره أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن فإن الصلح يقتضي الأمان العام
ومنها حديث: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وأنه أذن لي فيها ساعة من نهار"، وفي لفظ: "إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار"، وفي لفظ: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله (ص) فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس"
ومنها أنه ثبت في الصحيح أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ثم قال: "يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار" فجاؤوا يهرولون، فقال: "يا معشر الأنصار هل ترون إلى أوباش قريش؟" قالوا: نعم قال: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصداً"
وهو صريح في أن مكة فتحت عنوة، وقتل فيها من الطرفين كما هو معروف ورجزُ حماس بن قيس يخاطب امرأته مشهور في ذلك وهو قوله:
إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة لهم نهيتٌ خلفنا وهمهمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا تسمع إلا غمغمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة
ومنها أيضاً أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت رجلاً فأراد علي قتله فقال رسول الله (ص): "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وذلك يوم الفتح، ومنها أنه (ص) أمر بقتل مقيس بن صبابة وابن خطل وجاريتين، ولو كانت فتحت صلحاً لم يأمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن مكة فتحت عنوة فتركه (ص) قسم أرضها وبعض أرض خيبر وقسم بعض أرض خيبر وأرض قريظة يدل على جواز الأمرين وأن ذلك هو الذي لاحظه عمر لكن عمر فضل أحد الأمرين الجائزين استنادا إلى المصلحة المرسلة
فالحاصل أن الصحابة كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية"
وبالقطع كلها هذا استدلال خاطىء فالغنيمة هى الأموال الموجودة فى ميدان الحرب من أشياء موجودة مع القتلى من مال وذهب وطعام وسلاح وذخيرة ولو كان هذا فهما صحيحا لوجب تقسيم الجبال والأنهار والغابات والصحارى وكل شىء من الأرض على المقاتلين وهو أمر ليس فى مكنة أحد
التعارض مع القرآن هو مع قوله تعالى " ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون" فكل مسلم له نصيب من الأرض سواء جاهد أم لم يجاهد
كما اخبر المسلمين فى آية أخرى أنهم ورثوا جميعا الأرض فقال " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها" فلو كانت الأرض التى لم يطؤها أى لم يدخلوها ملكا فقط للمجاهدين فكيف ورثوها وهم لم يحاربوا أساسا ولم يدخلوها؟
ثم قرر الشنقيطى عمل كل المذاهب بالمصالح المرسلة رغم أن بعضهم ينكرها فقال :
"وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها، ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال
واعلم أن العمل بالمصالح المرسلة المذكور ليس تشريعاً جديداً خالياً عن دليل أصلاً بل من يعمل بها من العلماء كمالك وغيره يستند في ذلك إلى أمور
منها: عمل الصحابة بها من غير أن ينكر منهم أحد وهم خير أسوة
ومنها: أنه قد علم من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها ولا سيما إن كانت المصلحة متمحضة لم تستلزم مفسدة ولم تعارض مصلحة راجحة ولم تصادم نصا من الوحي
ومنها: أن بعض النصوص قد يدل لذلك كما ذكرنا آنفاً في صحيح مسلم من أن بعض الصحابة انتهر بريرة لتصدُق النبي (ص) فيما تعلم عن عائشة وبريرة مسلمة وإيذاء المسلم بالانتهار من غير ذنب حرام، وقد استباحه بعض الصحابة للمصلحة المرسلة وهي تخويف الجارية حتى تقول الحق، ولم ينكر النبي (ص) عليهم هكذا قيل "
وقول الشنقيطى أن المصبحة المرسلة تستند إلى اصل فى الشره هو ضرب من الوهم لأنه قوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء" جعل لكل مسألة فى الدنيا نص يبين حكمها ولا يوجد فى المصحف نص يبيح المصلحة المرسلة
ثم ذكر الشنقيطى
ولكن استناد المصلحة المرسلة إلى دليل خاص يخرجها عن كونها مرسلة كما ترى والعلم عند الله تعالى فمثال معارضتها لمصلحة أرجح منها غرس شجر العنب فإن منع وجوده في الدنيا يستلزم مصلحة هي السلامة من عصر الخمر منه، ولكن مصلحة السلامة من عصر الخمر من العنب بإعدامه من الأرض معارضة بمصلحة أرجح منها وهي انتفاع الناس بالعنب والزبيب فهذه المصلحة الراجحة تقدم على تلك المصلحة المرجوحة وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغرب"
وهذا الكلام عن العنب هو ضرب من الخبل لأن هناك نصوص عدة فيه كما قال تعالى "وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون"
ومن ثم فلا حاجة لكلام مع النصوص فالله خلق العنب لأكله كما فى الآية ومن ثم فمن يفكر فى منع زراعته أو محوه من ألأرض هو مجنون
ومن الخبل أن يضرب المثل التالى:
"ومن أمثلة هذا أيضاً إجماع المسلمين قديماً وحديثاً على جواز مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد، ولم ينقل عن أحد أنه قال يجب عزل النساء عن الرجال وإسكانهن منفردات عليهن في حصون قوية وأبواب من حديد مفاتيحها بيد من عرف بالتقوى والعفاف وكبر السن والغني بالزوجات، مع أن عزل النساء فيه مصلحة السلامة من الزنا لأن كون الجميع في بلد واحد قد يكون ذريعة إلى التوصل إلى الفاحشة بالإشارات ورمي الأوراق التي فيها مواعيد، والاتصال من فوق السطوح كما قال نصر بن حجاج بن علاط السلمي:
ليتني في المؤذنين نهارا وأنهم ينظرون من في السطوح
فيشيرون أو يشار إليهم حبذا كل ذات دل مليح
لأن مصلحة تعاون الذكور والإناث على الدين والدنيا في البلد الواحد بأن يكون الرجل ونساؤه في دارهم يتعاونون بأن يقوم كل بما يليق به من الخدمة أرجح من مصلحة قطع الذريعة إلى الزنا باجتماع الجنسين في البلد الواحد "
فالله خلق الذكر والأنثى للتعارف كما قال تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"فمن يفكر فى منع اختلاط النوعين مجنون كما أن النصوص طافحة فى القرآن بأمور توجب وجود النوعين فى مكان واحد وهو الزواج " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم" ومثل وجود الاخوة والأخوات فى بيت واحد ومثل أكلهم فى بيت معا كما قال تعالى" ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة"
ثم ضرب مثال فقال :
"ومثال استلزام المصلحة مفسدة راجحة أو مساوية ما إذا طلب المسلمون فداء أساراهم من الكفار فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يعلم به أن ذلك السلاح ييسر لهم قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن كان ييسر لهم قتل قدر الأسارى فالمفسدة مساوية وإن كان ييسر لهم قتل أكثر منهم فالمفسدة راجحة"
مثال مجنون فقتل الأسرى أمر سهل فلو ارادوا قتلهم لقتلوهم بأى وسيلة ولا يحتاج للسلاح المطلوب فى المثال المضروب وهم كانوا قادرين على قتلهم عند أسرهم ولم يكن يمنعهم شىء
كما أن الأسرى من المؤمنين مثلهم مثل باقى المجاهدين يحكمهم أنهم باعوا أنفسهم لله يقتلون ويقتلون كما قال تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة "
ومن ثم سيان أن يقتلوا فى الحرب من جانب العدو أو من جانب المسلمين الأخرين اضطرارا وخطأ
ثم ضرب أخر فقال :
"ومثال تأدية المصلحة إلى مفسدة في ثاني حال: أعني متجددة في المستقبل ما وقع من مؤمني قوم نوح عليه السلام فإن تصويرهم لرجالهم الصالحين يغوث ويعوق، ونسر، وود، وسواع، في حالته الأولى مصلحة وهي التي قصدوها بتصويرهم لأنهم إذا رأوا صورهم تذكروا صلاحهم وعبادتهم فبكوا وعبدوا الله وأطاعوه، ولكنهم لم يعلموا أن هذه المصلحة مستلزمة في المستقبل لمفسدة هي أعظم المفاسد وهي: أن ذلك التصوير وسيلة للكفر البواح والشرك بالله، لأنهم لما مات أهل العلم منهم وبقي أهل الجهل زين لهم الشيطان عبادة تلك الصور فعبدوها وذلك أول شرك وقع في الأرض، وهو أعظم مفسدة قد استلزمتها مصلحة مرسلة، ولم يتفطن لها عند استعمال المصلحة، وذلك يستوجب الحذر التام من العمل بالمصالح المرسلة خوف استلزامها بعض المفاسد التي تتجدد في المستقبل كما ذكرنا آنفاً"
والمثال الذى قاله الشنقيطى لا أصل له فالله لم يقل أن قوم نوح(ص) صوروا الخمسة وظاهر القرآن الخمسة هم كبار الكفار فى القوم كما قال تعالى على لسان نوح (ص)عقب ذكرهم "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا"
فالخمسة قال فيهم" وقد أضلوا كثيرا" فهم من أضلوا بقية القوم لمصلحتهم
رضا البطاوى- عضو ممتاز
-
عدد الرسائل : 3602
العمر : 56
العمل : معلم
تاريخ التسجيل : 18/07/2011
مواضيع مماثلة
» نظرات فى كتاب المصالح المرسلة
» نظرات فى كتاب فتح القسطنطينية
» نظرات فى كتاب الإخلاص
» نظرات فى كتاب التبرج
» نظرات فى كتاب التبرج2
» نظرات فى كتاب فتح القسطنطينية
» نظرات فى كتاب الإخلاص
» نظرات فى كتاب التبرج
» نظرات فى كتاب التبرج2
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى